منتديات انفاس الحب

منتديات انفاس الحب (https://a-al7b.com/vb/index.php)
-   ❀ انفاس عالم القصه والرواية ❀ (https://a-al7b.com/vb/forumdisplay.php?f=25)
-   -   ☂ الحب تحت المطر ☇☁ (https://a-al7b.com/vb/showthread.php?t=84969)

رآجہل مہتمہيہز 03-01-2023 02:52 AM

(9)
جمعت الشرفة المطلة على النيل الصديقات الثلاث: عليات عبده وسنية أنور ومنى زهران. وكان الخريف يبث في الجو برودةً لطيفة، ويزين سماء الأصيل بسحبٍ ناصعة البياض. وقد لبت عليات وسنية دعوةً عاجلة إلى مسكن منى بالمنيل، فتوقعتا أخبارًا جديدة وسعيدة. وهن صديقات حميمات منذ الدراسة الثانوية، وتمتاز منى بجمالٍ رائق يتمثل في بشرتها الضاربة للبياض وعينيها السوداوين الجذابتين، وقامتها الرشيقة المائلة للطول، كما تمتاز بأسرتها المتوسطة ذات الدخل الموفور — الأب مدير إدارةٍ قانونية، والأم ناظرة مدرسة متقاعدة باختيارها — فضلًا عن أنها موظفة بالسياحة منذ عام. وكان لها شقيقان أحدهما مهندس في بعثة بالاتحاد السوفيتي، والآخر طبيب بالمنوفية، ويتوقع اختياره في بعثةٍ قريبة، ولذلك كانت طموحة تداعبها الأحلام ولا تستقر. وكان مسكن منى يذكر عليات وسنية بمسكن الأستاذ حسني حجازي، رغم الفارق المحسوس بينهما، ولكن الحسد لم يتسلل إلى نفسيهما بفضل العلاقة الحميمة الحارة. وقد توقعتا أخبارًا جديدة وسعيدة، ولكن منى قالت باقتضابٍ مثير: فسخت خطوبتي قبل أن تعلن!

انزعجت الفتاتان حقًّا، وقالت عليات: غير معقول!

وقالت سنية: أي خبر!

وكانت منى قد قدمت لهما — منذ شهر — في دار الشاي الهندي شابًّا يدعى سالم علي، قاضٍ بمجلس الدولة، باعتباره الصديق والخطيب المنتظر، ولذلك توقعتا من وراء الدعوة العاجلة أخبارًا جديدةً سعيدة لا هذا الخبر الأسيف. وقالت سنية وهي تهز رأسها هزة ذات معنًى: وطبعًا كنت أنت البادئة؟!

فقالت منى بتحدٍّ: ظنك صادق دائمًا معي!

– ولكنه شابٌّ جذاب وذو مركز يا منى؟

وقالت عليات: وكان واضحًا أنه يحبكِ، وأنكِ تبادلينه الحب.

عند ذلك تململت من الضيق، وربما من عاطفة لم تستطع بعدُ أن تقتلعها من أعماقها، فثبت لهما أنها إنما دعتهما لحاجتها إلى الأنس والعزاء، ولكنها قالت بنبرةٍ لم تخلُ من حدة: عرفت عن يقين أنه يقوم بتحرياتٍ عني!

وساد الصمت حتى قالت سنية: أهذا ما أخذتِه عليه؟

– وهو كافٍ وفوق الكفاية.

فقالت عليات: أراهن على أنه فعل ما فعل بحسن نية!

– أنا لا أتهمه بسوء النية، ولكن بسوء العقلية أتهمه!

ثم مستدركة بانفعالٍ شديد: ولم أتردد فواجهته بالتهمة، تلعثم وحاول أن يفسر سلوكه بغير بواعثه الحقيقية، ولكني رفضت تفسيره وطالبته باحترام نفسه، فاعترف واعتذر بسخافاتٍ لا أذكرها، ولا أحب أن أذكرها فلم أقبل عذره، وقلت له ولم لا تسعى إلى الزواج عن طريق خاطبة، وسألتُه عما يريد معرفته عني أكثر مما يعرف، أو مما يمكن أن يعرف بالاتصال المباشر وبالحب المزعوم، قال إنه بريء، وإنه يحبني، وإن سمعتي نقية مثل الورد فضحكت ساخرة، وقلت له إني أحتقر تحرياته، وأحتقر النتائج التي وصل إليها، وإنه خدع، أو إنه لم يحسن التحري. وقلت له ماضيَّ ملكي وحدي كما أن ماضيه ملكه وحده، وإنني أرفض كافة أنواع العبودية في أي زيٍّ تزيَّت، وبأي اسمٍ تحلَّت، وإنه لا يصلح لي كما لا أصلح له!

وسكتت وهي تلهث، والغضب يرتعش في شفتيها، ويدلهمُّ في عينيها. وبدا أن صديقتيها لا تؤيدانها في موقفها، وإن شاركتاها في الإحساس والرؤية. تساءلت عليات: ألم تبالغي يا منى؟

وقالت سنية: هي تقاليد بلادنا!

فهزت منى رأسها بعنادٍ وقالت: إني أرفض ذلك كله!

فقالت سنية: إنهم معقدون، ويحتاجون إلى ترويضٍ طويل.

وقالت عليات، وكأنما تتم الكلام: لا إلى التحدي.

فقالت منى بعجرفة: أفضل أن أبقى بلا زواج إذا كان الثمن كذبةً سخيفة وجراحةً دنيئة!

فقالت عليات: ولكن ظروفنا حرجة كما تعلمين.

– لا يمكن أن أتهاون في مبادئي وأخلاقي.

أجل فهي معروفة بأخلاقياتها، وهي لم تمارس الجنس إلا بدافعٍ من الحب، ولم تضطر — مثلهما — إلى ممارسته في أحيانٍ كثيرة لاقتناء ما يحتاجان إليه من ملابس وأدوات زينة وكتب. ولعلها كانت تحتقر سلوكهما وإن عطفت عليه من أعماق قلبها المحب. وقد تابعت خطوات خطوبتهما، وما اقتضته من شهادات الزور والأكاذيب وغير ذلك، ولم ترتحْ لشيءٍ منه وإن تعزت بأن جميع تلك السخافات إنما ارتكبت باسم حبٍّ حقيقي. وكانت محاولة إثنائها عن موقفها ميئوسًا منها لما تعرفان من عنادها وكبريائها ومثالياتها، فسلمتا بالواقع في حزنٍ وكآبة. وقالت لها عليات: أنتِ يا منى جميلة وممتازة وجديرة حقًّا بزواجٍ سعيد!

فسألتها منى: ترى هل تطمئنان إلى مستقبلكما القائم على كذبةٍ كبيرة؟

فقالت سنية: إنه يقوم على الحب.

أما عليات فقالت بقلق: إن رجلًا مثل حسني حجازي خليقٌ بصون سرنا.

فقالت منى: حسني حجازي لا نتوقع منه الخيانة.

فعادت عليات تقول: أحيانًا أتذكر المصادفات المرعبة التي تقلب الأمور في السينما!

فقالت سنية بقوةٍ متحدية: لم يكن في وسعنا أن نفعل خلاف ما فعلنا وعلينا أن نواجه مصيرنا.

وفجرت الزيارة في نفس عليات وسنية دوامات من القلق، ولكن استقر في أعماقهما في النهاية قول سنية: «علينا أن نواجه مصيرنا.»

رآجہل مہتمہيہز 03-01-2023 02:53 AM

(10)
لم تسعد منى بانتصار كبريائها، أو لم تسعد كما قدرت، وفي أوقات انفرادها بنفسها غزتها الكآبة كالغبار. خافت أن ترتكب حماقاتٍ بلا نهاية. اعترفت لنفسها المتمردة بأنها ما زالت تحب سالم على رغم حماقته وسخافاته. أدركت أنها تقف حيال مشكلة، وأن المشكلة تتطلب على أي حالٍ حلًّا. وجاء شقيقها الدكتور علي زهران إلى القاهرة في إجازةٍ، فسُرَّت بحضوره وقصت عليه تجربتها الفاشلة. وأسف الرجل، ولكنه كان مستغرقًا بهمومٍ طارئة، فقال لها: إني أفكر في الهجرة!

فدهشت منى وتمتمت: الهجرة؟!

– الحق أني جاوزت مرحلة التفكير، فاستقر رأيي على الهجرة.

– ولكنك تنتظر فيما أعلم بعثةً علمية؟

– لم ألقَ إلا المماطلة، ففكرت في الهجرة، ثم استقر رأيي عليها.

– وكيف يتم لك ذلك يا أخي؟

– إني على وشك الانتهاء من بحثي عن الطفيليات، وسوف أرسله إلى زميلٍ مهاجر بالولايات المتحدة ليعرضه على الجامعات، وبعض المراكز الطبية، ومن ثم أنتظر أن أُدعى للعمل في إحداها، وهو ما حصل معه بالضبط.

فشهقت بقوةٍ من شدة الانفعال وقالت: أهاجر معك!

ثم بثقة: إني متخصصة في الإحصاء، وأتقن الإنجليزية.

فابتسم الدكتور وقال: لأن نهاجر اثنين خير من أن أهاجر وحدي!

وعارض الوالدان الفكرة، ولم يدركا لها حكمة ما دام للشقيقَين مستقبلٌ مرموق في مصر، فقال الدكتور لوالديه: البلد بات مقرفًا.

وقالت منى: وهو لا يطاق.

وأراد الأب أن يستثير عاطفتهما الوطنية، ولكن الدكتور علي قال بجرأةٍ عدها الأب قاسية: لم يعد الوطن أرضًا وحدودًا جغرافية، ولكنه وطن الفكر والروح!

وتألم الأب الذي ينتسب إلى جيل ظ،ظ©ظ،ظ©؛ جيل الوطنية المصرية الخالصة، واستمع إلى ابنه بانزعاجٍ، فخيل إليه أنه يطالع ظاهرةً غريبة تستعصي على الإدراك والتفسير. وكان يسلم بأنه لا يستطيع أن يثنيهما عن عزم إن اعتزماه، فتساءل في جزعٍ كيف يمكن أن يحتمل الحياة بدون وجودهما معه في وطنٍ واحدٍ على الأقل! وكانت منى تحب أباها كثيرًا، ولكنها لا تكاد تتفق معه في رأي، وعجبت كيف أن هزيمة ظ¥ يونيو فجرت وطنيته من جديد، فعادت سيرتها الأولى على حين أنها منيت بخيبةٍ شاملةٍ تدفعها باستمرارٍ إلى تغيير جلدها خليةً خلية. وهو ما حصل لعليات وسنية وغيرهما، وما حصل لشقيقها. وقالت مخاطبة الدكتور: إننا نحيا بلا هدف!

فقال لها بامتعاض: وأنا أحيا بلا حياة!

– يجب أن نهاجر.

– سنهاجر عند أول فرصة.

واعتبرت منى نفسها سائحةً عابرة، فشعرت براحةٍ نفسية لم تشعر بها مذ قطعت علاقتها بسالم علي. وسرعان ما ذاع الخبر بين صديقاتها وزميلاتها، وفي الأوساط التي تنتقل فيها. وراحت تحلم بحياةٍ جديدةٍ نقيةٍ توفر للفرد سبل التقدم والازدهار والأمن. وكانت عائدة من مكتبها عصرًا عندما وجدت أمامها سالم علي في ميدان طلعت حرب. لم تكن مصادفة، ولم يحاول ادعاء ذلك، ولكنه مدَّ لها يده، وهو يقول: علمت أنك ستهاجرين إلى الولايات المتحدة، فعزَّ عليَّ ألا أودعك.

فصافحته ببرود أخفت به انفعالها، وقالت: أشكرك.

ومضت في سيرها، فسار إلى جانبها فرمقته باحتجاجٍ، ولكنه تجاهلها، فعادت تقول: قلت أشكرك!

فقال بهدوء: ولكني لن أترككِ.

فسألته بالبرود نفسه: لماذا؟

فقال وكأنه يعترف: وضح لي أني أحبك، وأنني لم أستطع الإقلاع عن الحب.

ووجدت أنها سعيدة لدرجةٍ فاضحة، فغضَّت بصرها وهي تقول: ولكنني وُفقت في ذلك.

– إذن فلنذهب إلى دار الشاي الهندي.

وسارا جنبًا لجنب، وقد انقلبت أحلامها رأسًا على عقب، فقال وهو يتنهد في ارتياح: الحب أهم شيء في الدنيا!

ثم بارتياحٍ أعمق وشى بما عاناه من عذاب: إي والله، الحب أهم شيء في الدنيا، وكل ما عداه باطل!

ونظر إليها متسائلًا: هل ستهاجرون حقًّا؟

فأجابت بفتور: نعم.

– ليتني أستطيع الهجرة أيضًا.

فسألته باسمة: وماذا يمنعك؟

– تخصصي لا يؤهلني لها.

ثم وهو يضحك: لا مفر من البقاء في مصحة الأمراض العقلية.

رآجہل مہتمہيہز 03-01-2023 02:57 AM

(11)
في قرارٍ واحد أصبح مرزوق أنور وخطيبته عليات عبده موظفَين في الحكومة؛ تعينت هي في وزارة الشئون الاجتماعية، أما هو فتعين في المنطقة التعليمية ببني سويف. تكدرت فرحة التعيين، وأطل شبح الفراق على الحبيبَين وتساءلا: كيف يجتمع شمل عروسَين واحدة في القاهرة والآخر في بني سويف؟ وذهب مرزوق إلى محطة مصر، فصحبه أبوه وعليات، وجلسوا حول مائدة في البوفيه، حتى يأزف ميعاد قيام قطار الصعيد. كان الأب في الستين، ولكنه بدا أكبر من عمره بعشرة أعوام على الأقل، وكان ممن يأخذون الأمور بتسليمٍ وبساطة، كما كان يعتبر ابنه من «المفقودين» على أي حالٍ، سواء أبقي في القاهرة أم رحل إلى أسوان. لذلك شجعه طيلة الوقت، وضرب له مثلًا بحياته هو في الثلاثينيات — سنوات الأزمة الاقتصادية — عندما تقاذفته بلدان القطر، والإفلاس يطارد التجار، ويصفي المحالَّ التجارية واحدًا بعد آخر. ومالت عليات نحوه، وسألته همسًا: أتعرف ذلك الرجل الذي يجلس أمامنا؟

فنظر نحو الأمام، فرأى رجلًا جالسًا، يدخن غليونًا، ويتفحصه بنظرٍ ثاقبٍ غير هياب، فقال على الفور: كلا.

لم يكن يعرفه، ولكن خيل إليه أنه لا يراه لأول مرة، فمتى رأى هذا الوجه شبه المربع الريان، وهاتين العينَين البراقتَين، وهذين الحاجبَين الكثيفَين، وهذا الرأس القوي الأصلع؟ وهمست عليات مرةً أخرى: إنه لم يحول عنك عينَيه طوال الوقت.

ولا بد أنه يريد أن يحولهما عنه بعد أن تنبه إلى نظراته. ولم يقنع بذلك، فقام بهدوءٍ وتقدم خطواتٍ، ثم وقف أمامهم، وأحنى رأسه تحية، وقال يقدم نفسه: محمد رشوان .. مخرجٌ سينمائي.

فقام مرزوق أنور بدوره، أحنى رأسه وقال: مرزوق أنور .. موظف .. تشرفنا يا فندم.

فسأله وهو يواصل فحصه: أليس لك تجربةٌ سابقة في فن التمثيل؟

فأجاب مرزوق بدهشة: كلا.

– ألا تحب أن تجرب نفسك؟

فضحك مرزوق رغم توتر أعصابه، وقال: لم يخطر لي ذلك ببال.

فقال وهو يهزُّ رأسه هزة خبير: عندي لك دور بطولة.

فهتف مرزوق في ذهول: بطولة!

– كنت مشغول البال بحثًا عمن يلعبه، فلما وقعتْ عليك عيناي وجدتُ ضالتي ماثلة أمامي، فما رأيك؟

فقال مرزوق بصوتٍ متهدج: أمهلني قليلًا.

وقال الأب: إنه في طريقه لتسلُّم وظيفته الجديدة!

وسألته عليات: هل يضمن بهذا الدور عملًا ثابتًا؟

فقال محمد رشوان: عندي له أكثر من دور بطولة وأنا أتنبأ له بالنجاح.

فقالت عليات: ولكنه لم يسبق له أن مارس التمثيل!

– هذا أفضل، سيخرج من تحت يدي كالجنيه الذهبي!

وكان رأس مرزوق قد دار وثمل، فقال متخذًا قراره: موافق!

فقال له أبوه: فكِّر قليلًا يا بني.

ولكنه قال بإصرار: موافق وسأجرِّب حظي!

وأعطاه محمد رشوان بطاقته وهو يقول: تقابلني غدًا في هذا العنوان في العاشرة صباحًا، عندك تليفون؟

فهزَّ مرزوق رأسه نفيًا، فقال: ودورك جديد في الواقع، دور شابٍّ جامعيٍّ مجند، يزور القاهرة في إجازةٍ قصيرة، فتقع له أحداثٌ هامة، وتحبه سيدةٌ مجهولة الجنسية، وتدعوه للهرب معها.

فتساءل مرزوق: وهل يهرب معها؟

– هذا ما سيجيب عنه الفيلم، والمهم أن تبقى الحال على ما هي عليه، حتى يعرض الفيلم.

– أي حالٍ تقصد؟

– أقصد الموقف في الجبهة.

فسأله الأب: وهل تتوقع أن يتغير الموقف قبل ذلك؟

– المنتج يؤكد أن الموقف سيبقى على ما هو عليه أعوامًا .. أما …

فتساءل مرزوق: أما؟

فضحك محمد رشوان، وقال: أما إذا انهزمنا مرةً أخرى، أو حتى إذا انتصرنا، فستكون العواقب وخيمة على الفيلم وصاحبه!

رآجہل مہتمہيہز 03-01-2023 02:58 AM

(12)
التقى مرزوق بالسيدة المجهولة الجنسية. كانت تطارده وهو لا يدري، ولكنها تظاهرت بالبرود، وسألته سؤالًا عابرًا، وأجابها بأدبٍ وبلا اهتمام أولًا، ثم جذبه بغتةً جمالها المضيء، فصعق تمامًا. وكان يرتدي بدلته العسكرية، وتتجلَّى البراءة في عينَيه.
ووقف وراء الكاميرا ضمن نفر من المراقبين عليات عبده وسنية أنور ومنى زهران وإبراهيم عبده وسالم علي. حتى التنفس مارسوه بحذر؛ فسادَ الصمت، وشمل كل شيء، ولم تدب الحياة إلا تحت الأضواء الباهرة داخل البلاتو. ولما أعلن محمد رشوان انتهاء اللقطة خرج الممثلان من دورهما وردَّت الروح إلى الواقفين وراء الكاميرا، فقالت منى زهران: إنه ممثلٌ أصيل.
وقال إبراهيم عبده: شيء لا يصدَّق!
وعبثًا حاولت عليات إخفاء توتر أعصابها، والفرحة التي انطلقت في حنايا قلبها. وأقبل مرزوق نحوهم، فصافحهم وعانق إبراهيم. ووقف أمام إبراهيم في زيٍّ عسكري واحد يتبادلان النظر والابتسام. وقالت عليات مخاطبةً أخاها إبراهيم: إنه يلعب دورك في الفيلم.
وتفحَّصه إبراهيم بعنايةٍ وقال: ولكنك أنيق كضابط.
فقالت سنية ضاحكة: لأنه يمارس الحب لا القتال.
فسأله إبراهيم: وهل يمتد دورك إلى الجبهة؟
فأجاب مرزوق: أجل، قرأته في السيناريو، وهو يصوِّر بطولةً خارقة.
فضحك إبراهيم ولم يعلق بحرف. وجاء المخرج محمد رشوان، فصافح الجميع. وكان قد عرف عليات وسنية من قبلُ، فتعرف بمنى زهران وخطيبها سالم علي. وكان يتفحص الوجوه كما يتفحص الصائغ الحلي. واقترب من إبراهيم وقال له: سنحتاج إليك في بعض المعلومات الضرورية.
فتساءل إبراهيم ضاحكًا: تقصد بعض الأسرار؟!
– كلا .. إنما ما يُسمح بتصويره.
– ليس كل ما يسمح بتصويره مما يحسن تصويره!
فقال محمد رشوان: إنما هدفنا أن نحيي بطولتكم!
ثم التفت إلى منى زهران، وسألها: ألا توافقين على ذلك؟
فهزَّت رأسها بالإيجاب. ثم عاد إلى إبراهيم وقال: كلنا جنود، ولكن تختلف الميادين!
فضحك إبراهيم بفتور وقال: ولكننا نقاتل وأنتم تمثلون!
وضحك الجميع. وأزف وقت تصوير لقطةٍ جديدة، فذهب مرزوق ومحمد رشوان. وعند ذاك قالت منى زهران: هذا المخرج لا يوحي بالثقة!
فقالت عليات: ولكنه ذو فراسةٍ مذهلةٍ ومقدرةٍ خارقة.
فلوت منى شفتَيها، وقالت: إني على خلاف الكثيرين أحترم الأفلام الهزلية!
فسألها سالم علي: لماذا يا عزيزتي؟
– هي على الأقل صادقة!
فضحك إبراهيم في مرحٍ صافٍ لأول مرة وقال: صدقتِ.
ثم همس في أذن سنية خطيبته: كدت أفقد حياتي أمس مرتَين!
فقبضت على كفه بحنانٍ وهمست: لا سمح الله!
عكست عيناها الخضراوان نظرةً ساهمة. وسألت علياتُ منى بمرحٍ عابث: متى تهاجرين؟
فأشارت منى إلى سالم وقالت: هذا الرجل هو المسئول عن فشل المشروع.
فقالت له عليات: نحن مدينون لك بالشكر.
فقالت منى: الهجرة على أي حال سُنَّة!
فسألها إبراهيم: ولو كانت إلى الولايات المتحدة؟
فأجابت بتحدٍّ: ولو كانت إلى الجحيم!

فروله توت ♩ 03-01-2023 03:44 AM

طرح رائع
يعطيك الف عافيه
اتمنى لك مزيد من التميز والابداع
مودتي.

رآجہل مہتمہيہز 03-01-2023 06:42 AM

(13)
في زيارةٍ طارئة تلاقت عليات وسنية مع منى زهران في مسكنها بالمنيل. لم تكن زيارةً عادية، أو هذا ما قرأته منى في عينَي صديقتها. وقالت عليات: لدينا رسالةٌ هامة!
فأثار ذلك حب استطلاعها إلى أقصى حدٍّ، وتساءلت: أي رسالة؟ وممن؟
– من مرزوق أنور.
– الفنان الكبير؟!
فقالت سنية: محمد رشوان المخرج يرغب في مقابلةٍ خاصة.
فذهلت منى واتسعت عيناها، ولم تدرِ ماذا تقول، فقالت عليات: إنه يفتح لكِ دنيا الكواكب والنجوم!
وقالت سنية: وإن أردتِ الحق فكأنكِ خلقتِ لذلك.
وتفكرت منى وهي في غاية الانفعال، وتمتمت: لم يجرِ لي ذلك في خاطر.
فقالت عليات: ولا كان جرى في خاطر مرزوق.
– أودُّ أن أستأنس برأيكما!
فقالت عليات: جربي حظك بلا تردد.
وقالت سنية بتوكيد: بلا تردد.
– ولكنني لم أجرب هذا الفن من قبلُ.
فقالت سنية: الحب قد يسبق الفن، وقد يلحق به، لا أهمية لذلك!
وفي الساعات القلائل التي تلت المقابلة جعلت تفكر في الأمر، فاجتاحتها فكرته، ووقعت أسيرة لسحره. وتلفنت لسالم علي أن يقابلها في دار الشاي الهندي، ولما أخبرته بما اعتزمته ذُهل الشاب وصُعق وقال: لا شك أنها دعابة!
فقالت بتوكيد: بل إنني أعني ما أقول تمامًا.
فهتف بيأس: ممثلةٌ سينمائية!
فقطبت متسائلة: ولمَ لا؟
فقال بغضب: لا!
– ولم تعجبها لهجته وأشعل غضبُه كبرياءها؛ فقالت: لا أقبل هذه اللهجة!
– وأنا أرفض الفضيحة.
– فضيحة! أنتَ … أنتَ …
فقاطَعها بحدة: لقد قبلتُ من أجلك ما لا أستطيع تجاوزه بخطوةٍ أخرى واحدة!
فصاحت: أنت تمنُّ عليَّ بذلك!
– إني أعني تمامًا ما قلت!
فاصفرَّ وجهها وقالت بانفعالٍ شديد: كفى .. كفى .. أرجوك .. لا ترني وجهك بعد الآن!
فقام وهو يقول: أنتِ معقدة ومجنونة!
وفسخت الخطوبة للمرة الثانية.
واستجابةً لانفعالها الشديد، فضلًا عن رغبتها الأصلية، سعت إلى مقابلة محمد رشوان. زارته بصحبة مرزوق أنور، في مكتبه بشارع عرابي. ورحب بها بحرارة وجلس إلى مكتبه وهو يقول: إنهم يسمونني يا آنسة منى كولمبس؛ لكثرة ما اكتشفتُ من نجوم وكواكب، ولم تخب نظرتي مرةً واحدة، فأبشري مقدمًا بالنجاح!
فأشار مرزوق إليه، وقال لها: إني أُومن بهذا الرجل!
وعاد محمد رشوان يقول: إني أرشحك لبطولة فيلم أعتزُّ به جدًّا، هل تغنين؟
فأجابت بحياء: كلا.
– لا يهم، ممكن الاستغناء عن الغناء، ولكنني لن أفرغ للفيلم الجديد قبل ستة أشهر.
فقال مرزوق: وهي فرصة لإجراء الاختبارات الضرورية والدعاية اللازمة.
– برافو مرزوق! وإذن فقد تم الاتفاق على كل شيء.
وعقب مرور يومين على المقابلة استدعاها المخرج تليفونيًّا إلى مكتبه. وفي ذلك الاجتماع الذي اقتصر عليهما، التقط لها بعض الصور الفوتوغرافية، وأجرى لها بعض الاختبارات الصوتية، كما دعاها إلى تمثيل موقفٍ درامي من أحد أفلامه. وطيلة الوقت شجعها بابتسامةٍ لطيفة فأنست إليه، وخفق قلبها بالامتنان. غير أنها لم ترتحْ إلى نتائج الاختبارات رغم تشجيعه الودود. ومالت إلى الاعتقاد بأنها لم تخلق لهذا الفن، وأن أي اجتهاد تبذله فيه مصيره الضياع. ولم تخفِ عنه مخاوفها، فقالت: إني غير راضية عن نفسي!
– هذا بالحرف ما قالته فتنة ناضر عن نفسها في أول اختبار.
فعاودها شيء من الأمل في صورة ابتسامةٍ حلوة، فقال: وفتنة ناضر في الأصل جامعية مثلك، وهي اليوم جوهرةٌ غالية في دنيا الفن!
وتعددت اللقاءات وتكررت الاختبارات. ومضى أكثر الوقت في أحاديثَ عامة عن الفن والحياة. ولاحظت منى أن الأمية تغلب على تفكيره رغم شهرته ونجاحه، وأنه كان يمكن استساغته بشيءٍ من التساهل، لولا غروره الهرمي الذي لا يُحتمَل. ولاحظت أيضًا أنه يعجب بها أكثر مما يعجب بفنها. بل باتت تؤمن بأنه لا يكترث لفنها على الإطلاق، وأن المسألة من أولها لآخرها مجرد شَرَك. وعند ذاك تجمَّعت في صدرها أبخرة الغيظ والغضب وخيبة الأمل. ولما قال لها وهو يظن أنه آن له أن يمد يده لجني الثمرة: جو المكتب غير مناسب لهذه الأحاديث الطلية، فأنا أدعوكِ للعشاء!
لما قال لها ذلك أدركت ما يعنيه، وهي تشعر بالغثيان. أما هو فاستمر يقول: يجب أن تري عشي الخلوي بالعامرية!
وأحسَّت بأنفاسه المشبعة بالتبغ، وهي تتردد على خدها، فثار غضبها، ولطمته على وجهه!
تراجع في وقفته حتى استقام عوده، وتحجرت نظرته وانتفخ خداه بالغضب، وبسرعة هوى على خدها بكفِّه الغليظة، فترنحت وتهاوت على الأرض. وصاح بها: تظنين أنك امرأة لا يجوز مسها في عرف اللياقة العصرية، يا خنزيرة يا بنت الخنزيرة!
قامت مشعثة الشعر، ورأسها يدور، وهي لا تصدق، فصاح بها مرةً أخرى: اخرجي يا عاهرة، وقُصِّي هذه القصة على أمك!
ما زال رأسها يدور، وتناولت حقيبتها، وسوت شعرها، ومضت نحو الباب، وصوته يتبعها قائلًا: دعوتي للعشاء ما زالت قائمة، وتحياتي لأمك!

رآجہل مہتمہيہز 03-01-2023 06:43 AM

(14)
ثار سالم علي ثورةً جامحة تخطت جميع الحدود. صمم على نبذ منى واحتقارها، واعتبرها فتاةً مجنونة، وأن من حسن حظه حقًّا أنه عرفها على حقيقتها قبل أن يتورط في الزواج منها. ولم يقتنع شقيقه الأصغر حامد بثورته، فقال له: ما زلتَ تحبها يا أخي.

فصاح بغضب: أبدًا، وسوف تعرف ذلك بنفسك.

وكان حامد يحب شقيقه، ويؤمن بأنه يفهمه، فقال: أنت يا أخي برجوازي، ويناسبك الزواج البرجوازي!

فتضاعف غضب سالم، وقال: عيبكم الأساسي هو تعلقكم بالمصطلحات، انتظر وسوف ترى!

فقال له بإشفاق: إن مركزك القضائي …

ولكنه قاطعه: انتظر وسوف ترى!

وعاد إلى بؤرةٍ قديمة كان هجرها مذ عرف منى زهران. ذهب إلى ملهى «مركب الشمس» بالهرم، وهو نصف ثمل. وانزوى في الحديقة رغم برودة الجو، وطلب من النادل أن يدعو سميرة لمشاربته. وسميرة كانت صديقته، وهي راقصة من الدرجة الرابعة ترقص ضمن مجموعة في خلفية المسرح عندما يغني مطرب بالملهى. وهي في الخامسة والثلاثين، وبها مسحة جمال، وجسمها أجمل من وجهها، ورخيصة الثمن نسبيًّا، وقد دهشت لعودته عقب غياب استمر أكثر من نصف عام، فتظاهرت بغضب لا أساس له، وقالت له: رجعت يا خائن!

وراحا يشربان. ولاحظت أنه — بخلاف عادته — يشرب بإفراط. وكانت ترتاح إليه؛ لأنه مهذب، ولأنه يملك سيارةً صغيرة، وأخيرًا لأنه كريم. وقالت له ضاحكة: أنت تشرب كالوحش.

فقال لها: سأنتظرك آخر الليل.

ومع أنها رحبت بذلك في أعماقها، إلا أنها قالت متسائلة مع رغبة في تأديبه: كلا!

وتبادلا نظرةً طويلة، ثم قالت: مرتبطة الليلة.

فهتف بضجر: كلا!

– كلا!

– كيف حال بنتك الصغيرة؟

– مع أمي كما تعلم.

فأفرغ كأسه، وقال: عندي فكرة لا بأس بها …

– فكرة؟!

فتريث قليلًا؛ لأنه شعر رغم سكره بأنه مقدمٌ على أخطر خطوة يتخذها في حياته. وغضب لتريثه، فقال: أرغب يا سميرة في أن نعيش معًا!

فتفكرت قليلًا، ثم تمتمت: فيها قولان!

– ولكنكِ لم تدركي مقصدي!

– أعتقد أنه واضح.

فقال وهو يركز عينيه في كأسه: أريد أن أتزوج منكِ!

فطالعته بإنكار، ثم قالت بحدة: أنت سكران!

– بل رجعتُ إليك لتحقيق ذلك.

فجعلت تنظر إليه في ريبة، فقال: ما قولك؟

– أفق!

– الليلة إن أمكن!

ثم وهو يتناول يدها: ستبقى الصغيرة عند والدتك، ولكني سأرتب لها مصروفًا معقولًا، لستُ غنيًّا ولستُ فقيرًا.

فتساءلت بدهشة: أأنت جاد حقًّا؟

– هيا بنا في الحال إن شئت!

فضحكت وسألته: ماذا جعلك تقرر ذلك؟

– أريد أن أستقر، أستقر مع امرأةٍ معقولة بلا خداع، فهل أنتِ على استعداد لنسيان الماضي، وبدء حياةٍ جديدة؟

فضحكت ضحكةً عصبية، وقالت: لا يوجد مأذونٌ مستيقظ في هذه الساعة!

فقام وهو يقول: لا أهمية لذلك ما دام سيستيقظ في الصباح الباكر.

رآجہل مہتمہيہز 03-01-2023 06:44 AM

(15)
كان الدكتور علي زهران يرنو إلى شقيقته منى بحزن. كان باطنه يغلي، ولكن لم يبدُ في وجهه إلا الحزن. قال لها: أنت يا منى فتاةٌ ممتازة، وأنا لا أتصور ذلك.

فقالت بأسًى: لننسَ ذلك.

– ولكني أشعر باللطمة فوق وجهي!

– خير من ذلك أن تحدثني عن مشروع الهجرة.

– الهجرة!

ثم بفتور: الإجراءات طويلة، ولكني أنتظر.

– لا أريد أن أبقى في هذا البلد يومًا آخر.

فقال وباطنه ما زال يغلي: عيبكِ أنك شديدة الحساسية، ما كان يجب أن تقطعي رجلًا مثل سالم علي في لحظة غضب!

فقالت بنبرة تشي بالدمع النابع من جذورها: لا أريد أن أبقى في هذا البلد يومًا آخر!

– رجلٌ ممتاز ويحبك.

– دعنا من تلك السيرة!

– إنني أتساءل أحيانًا لماذا نعتبر أنفسنا على حق دائمًا؟

فقالت باسمة: لأننا على حق.

– الهزيمة زلزلتنا.

– ونوَّرتنا.

– أتسمحين لي بالاتصال بسالم علي؟

فانتترت قائمة في فزع، وقالت: كلا.

– فكِّري قليلًا.

– كلا.

– ألا تريدين أن …

فقاطعته بحدة: أريد أن أهاجر.

وهزَّ منكبَيه، ثم ودعها وغادر البيت. مضى إلى صيدلية واتصل تليفونيًّا بمكتب المخرج محمد رشوان سائلًا عنه، فكان الجواب أنه يعمل في استوديو مصر. وحاول الاتصال بالاستوديو، ولكن الرقم ظل مشغولًا، فاستقلَّ سيارته، وانطلق بها بسرعة إلى الاستوديو. وهناك — وكانت الساعة العاشرة مساءً — علم بأنه غادر الاستوديو، وأخبره موظف أنه ذهب إلى «جاميكا» لتناول العشاء. ووجه سيارته إلى جاميكا بالطريق الصحراوي. ومضى يجوب حديقتها، ويتفقد البهو، ولكنه لم يعثر له على أثر. وقال له المدير: إن الأستاذ لم يحضر بعدُ، فمضى يتمشى أمام المطعم. وحوالي الحادية عشرة وقفت سيارة في الموقف أمام المطعم، وتركها رجلان، فأشار البواب إلى أحدهما، وقال للدكتور علي: ها هو الأستاذ محمد رشوان!

كان يتقدم مرزوق أنور بخطوات، ويسير على مهلٍ وهدوء وفي خيلاء بجاكتته الجلدية الطحينية وبنطلونه الكحلي. اتجه الدكتور علي زهران نحوه في هدوء أيضًا على ضوء المصباحين المغروسين في أعلى المدخل، فالتفت الرجل إليه في غير اهتمام، ولعله توقع أن يسمع كلمة إعجاب أو اقتراح من نوعٍ ما يتصل بعمله. ودون أن يتفوه الدكتور بكلمة ركله في بطنه بكل قوة عضلاته وأعصابه. انطلق من فم محمد رشوان خوار. حملقت عيناه، ثم تهاوى ساقطًا على وجهه. حدث ذلك بسرعةٍ خاطفة، حتى ذُهل مرزوق أنور، فتجمد كتمثال. وخرج من ذهوله صائحًا: أنت مجنون؟

وأقبل البواب مهرولًا، وتجمع بعض سائقي السيارات. أحاط بعضهم بالدكتور علي، وانحنى الآخرون على الأستاذ الملقى.

وصاح الدكتور علي زهران يخاطب الرجل الملقى أمامه: أنا شقيق منى زهران يا وغد!

فانقضَّ عليه مرزوق أنور، حتى قبض على عنقه وهو يهتف: أنت مجنون! لن تفلت من يدي!

فنزع يديه بغضبٍ، وهو يصيح: إنه وغد يستحق التأديب!

وارتفع صوت من بين العاكفين على الرجل الملقى وهو يقول: مات الرجل .. اقبضوا على القاتل!

رآجہل مہتمہيہز 03-01-2023 07:02 AM

(16)
ذهبت منى برفقة أبيها إلى مكتب الأستاذ حسن حمودة المحامي بشارع صبري أبو علم. وقد تذكره الأستاذ زهران في محنته لا لزمالة قديمة فحسب، ولكن لاعتقاده بأنه أحد ثلاثة يعتبرون قممًا كمحامين جنائيين. وكانت حجرة مكتبه واسعة وفخيمة. فاستقبلهما بقامته المديدة، ووجهه الأسمر الغامق وعينَيه المشعتَين، ثم رحب بالأستاذ زهران، ووقفت عيناه — ثواني — شبه مبهورتَين عند منى قبل أن يدعوهما للجلوس ثم جلس.

وشرع الأستاذ زهران في قصِّ قصته، وسرعان ما قاطعه الأستاذ حسن: أهو ابنك؟ لم يخطر لي ذلك على بال!

ومضى الرجل في قصته، التي أصبحت قضية، حتى فرغ منها وهو يتنهد، فقال الأستاذ حسن: البقية منشورة في الصحف!

ثم وهو ينظر إلى منى مجاملًا: من المؤسف أن قتل مَن يستحق القتل عن غير جهة اختصاص يعتبر جريمة!

فقالت بصوتٍ ضعيفٍ مقهور: لم أتصور أن ينتهي الأمر بمأساةٍ طاحنة!

– ثمة مأساةٌ معقولة ومأساةٌ لا معقولة.

– وأخي لم يُعرَف عنه يومًا أي ميل للعدوان.

– لو كان خبيرًا في العدوان لما تورط في جريمة غير مقصودة.

وطلب منها أن تقصَّ القصة التي بدأت بها المأساة فقصَّتها عليه بتفاصيلها، سألها: هل يوجد شهود؟

– كنا وحدنا في حجرة مكتبه.

وتساءل الأستاذ زهران: وهل من مبررٍ لادعاء الباطل عليه؟

فقال الأستاذ حسن حمودة باسمًا: أنت أدرى بدقة القانون.

فقالت منى: واضح أنه لم يقصد قتله.

– يجب أن أطلع على ملف القضية أولًا، غير أن المنشور في الصحف يدل على أن الدكتور كان يسعى للقاء القتيل، وأنه بحث عنه في استوديو مصر كما بحث عنه في مطعم جاميكا، ثم انتظره، ثم كان ما كان …

– ولكن هل يكفي هذا لإثبات أنه قتله عن تعمدٍ وإصرار؟

– كلا، ولكن ترى هل أصابه في مقتل؟

– حتى لو كان ذلك صحيحًا، فلا شك أنه وقع مصادفة.

– ولكننا مطالبون بإثبات أي رأيٍ نرتئيه، ولا تنسى أنه دكتور، وأنه — في نظر المحكمة — خبير بالمَقاتِل!

وغشى الظلام عينَي الفتاة، فعاد يقول ملاطفًا: ولكن حول ذلك سيتركز نضالنا، وعلينا أن نثبت أنه ضربٌ أفضى إلى القتل.

فتساءلت وهي تنهار تمامًا: والأمل؟ ألا يوجد أمل؟

فقال الأستاذ بصوتٍ رنان: طبعًا! وهو أملٌ كبير .. والله المستعان.

وعاشت منى الأيام التالية في الجحيم. ولم تكد تفارقها عليات وسنية. وكانت تقول: حتى لو بُرِّئ من القتل المتعمد، فقد قُضي على مستقبله!

ولم توجد كلمةٌ صالحة للعزاء، فمضت تصرخ: عليَّ اللعنة! أنا المسئولة عن كل شيء.

وسعت إلى لقاء شقيقها في السجن. وبكت بحرارة وجنون. ومن عجب أنها وجدته هادئًا مستسلمًا. وقال لها: كفِّي عن البكاء يا منى فلا جدوى منه.

فقالت وهي تنتحب: ولكني السبب اللعين!

فقال بهدوء: أنت معتدًى عليك، وكان طبيعيًّا أن تفضي إليَّ بحزنك، كما كان طبيعيًّا أن أغضب.

وغمغم بكلامٍ لم تدركه، ثم قال: ثمة خطأٌ أعمى لا أدري عنه شيئًا، قُتل الرجل وقُضي عليَّ!

– أنا الخطأ الأعمى يا أخي!

– هو أقوى منكِ ومني، كفَّي عن البكاء!

– ليتك لم تغضب يا أخي!

فقال بضجر: ولكني غضبت، وعليَّ أن أواجه المصير.

رآجہل مہتمہيہز 03-01-2023 07:03 AM

(17)
عُهد بالفيلم إلى المخرج أحمد رضوان، فأتم المراحل الباقية منه محافظًا ما أمكن على أسلوب محمد رشوان. وحظي مرزوق أنور بإعجاب المخرج الجديد، لدرجة لم يتوقعها، فبعثت فيه روح الأمل من جديد. وكان أحمد رضوان مخرجًا ناجحًا، غزير العقود، عُرف في ميدانه بسرعة الإنجاز مع الإتقان، وحسن التوفيق لدى الجماهير، فانفتحت أمام مرزوق أبواب العمل. وقال له أحمد رضوان: أنت فنانٌ موهوب، وسأجعل منك الخليفة الحق لأنور وجدي!

فاهتزَّ مرزوق طربًا، وحلم بالمجد، فعاد يقول له: ولكن لا تجمد نفسك في نمط، النمطية مفيدة، ولكن المرونة خير وأبقى، المرونة التي أعنيها أن تمثل الشيء ونقيضه، الطيب والشرير، ولك البطولة في الحالَين.

وتنهد في حزنٍ وقال: لم يكن كذلك رأي المرحوم محمد رشوان.

ثم وهو يهز رأسه في أسًى: كان لطيفًا وراح هدرًا، أنت تقول إنك تعرف منى شقيقة القاتل؟

– معرفة سطحية جدًّا، ولكنها صديقة شقيقتي وخطيبتي.

– أتصدِّق ما ادعته في التحقيق؟

فهزَّ منكبَيه، وقال: سمعت همسًا يقول إنه كانت توجد علاقة جنسية بين القاتل والقتيل؟!

فذهل مرزوق، وقال: ولكن المرحوم .. أعني أنني لم أسمع عنه.

فقاطعه: ما علينا، سيكشف التحقيق عن الحقيقة، الله يرحمه، لا يجوز أن يذكر بسوء وهو بين يدي الله.

وكانا يجلسان بمطعم الاستوديو، فانضمت إلى مجلسهما فتاة بلا استئذان، فقدمه إليها، ثم قدمها قائلًا: فتنة ناضر، نجمةٌ جديدة مثلك، ولكنها لمعت في سماء الفن منذ عام.

وكان مرزوق يعرفها من صورها، كما علم بعلاقتها الخاصة بأحمد رضوان عن طريق المرحوم محمد رشوان. وكانت ذات جمالٍ خاص لا يدرك من أول وهلة، ولكنه نافذ الأثر. خُيل إليه أنه يوجد قدر من عدم التناسب بين قسماتها، ولكن جاذبيتها طاغية. وجسمها يميل للصغر في جملته، ولكنه في حدوده مليء ورشيق وجنسي إلى أبعد الحدود. وكان أحمد رضوان في الخامسة والخمسين، والدًا لفتاةٍ متزوجة من موظف في السلك الدبلوماسي، وشاب مهندس في بعثة في الاتحاد السوفيتي. واتسم غرامه بجنون الكهولة. و«فتنة» في الأصل جامعية، ومعروف في الوسط أنها عشيقة لثريٍّ عربي يدعى الشيخ يزيد، فرش لها شقة في الدور العشرين بعمارة النيل، ولم يكن يزور القاهرة، إلا في مواسم أو عابرًا، وقال له أحمد: «فتنة» موهبةٌ سخية، وستعمل معها في الفيلم القادم.

وربت على يدها بحنانٍ، وقال مخاطبًا مرزوق: ومن مزاياها أنها شقيقة ضابطٍ شهيد، فُقد في حرب يونيو.

وعرض فيلم مرزوق، فحقق نجاحًا ملحوظًا، أما هو شخصيًّا، فاعتُرف به كفنانٍ موهوب، وتنبأ له أكثر من ناقدٍ بمستقبلٍ باهر.

وتعاقد معه أحمد رضوان على ثلاثة أفلام، فاستقرت الأرض تحت قدمَيه، وعزم على الزواج من عليات في أقرب فرصة. وعندما اشترك مع فتنة ناضر في تمثيل أول الأفلام المتعاقد عليها، شعر بأنها توليه عنايةً خاصة، فتلقى ذلك بحذرٍ شديد، حرصًا على علاقته الطيبة بأحمد رضوان. وكانا — مرزوق وفتنة — يستريحان في حديقة الاستوديو بين فترات التصوير حين سألته: أحق ما يقال عن زواجك؟

فأجابها بطيبة: في أقرب فرصة.

– مبارك مقدمًا.

ثم مستدركة: ستكون أول وجه جديد متزوج.

– أجل!

– ولكن ألا تحتاج إلى حريةٍ مطلقة، وخاصةً في البداية؟!

– طالت مدة الخطوبة، وليس ثمة ما يبرر التأجيل.

فسكتت قليلًا مستسلمة لبرودة الليل، ثم سألت: وهل خطيبتك من الوسط الفني؟

– كانت زميلةً جامعية، وهي الآن موظفة بالشئون الاجتماعية.

– أعتقد أنها مطالبة بحكمة سقراط؛ لكي تسعد معك.

– يا لها من مبالغة!

ومشت قليلًا حتى غابت في الظلام تمامًا، ثم عادت إلى منطقة النور، وهي تقول: توجد فرصة لإنشاء شركة بيننا!

فدهش مرزوق، وتساءل: شركة؟!

– ليس بالمعنى التجاري، أعني ثنائيةً ناجحة.

– سمعتُ ذلك من الأستاذ أحمد وسعدتُ به.

– فعلينا أن نتحمس لثنائيتنا!

– بكل سعادة من ناحيتي!

– لي الثقة كل الثقة في رأي أستاذي أحمد.

ورمته بزهرة بنفسج كانت تفرُّها بين إصبعيها وذهبت؛ اضطرب مرزوق، اجتاحته عاطفةٌ سعيدة وآثمة؛ تذكر عليات فيما يشبه الاعتذار والندم.



الساعة الآن 12:32 PM

تصحيح تعريب Powered by vBulletin® Copyright ©2016 - 2024 
new notificatio by 9adq_ala7sas
User Alert System provided by Advanced User Tagging (Lite) - vBulletin Mods & Addons Copyright © 2024 DragonByte Technologies Ltd.
تنويه : المشاركات المطروحة تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس بالضرورة تمثل رأي أدارة آنفاس الحب

Security team

This Forum used Arshfny Mod by islam servant