منتديات انفاس الحب

منتديات انفاس الحب (https://a-al7b.com/vb/index.php)
-   ۩۞۩ أنفاس القصص والروايات الاسلاميه ۩۞۩ (https://a-al7b.com/vb/forumdisplay.php?f=7)
-   -   قصة الخليل إبراهيم وشيء من عبرها (1) (https://a-al7b.com/vb/showthread.php?t=11481)

- آتنفسك❀ 21-12-2019 06:16 PM

قصة الخليل إبراهيم وشيء من عبرها (1)
 
[b]

قصة الخليل إبراهيم وشيءٌ من عِبَرها
الجزء الأول [1]


إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102]، ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1]، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70-71]، أما بعد:



فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي رسوله محمد بن عبدالله، صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.



أيها المسلمون، إن الإنسان ميَّال بطبعه إلى الاقتداء بالآخرين، والأخذ من صفات المعظَّمين في نفسه، المحبوبين إلى قلبه، حينما يجد منهم خِلالًا يستحسنها، وأعمالًا طيبة يحبها، ولهذا كان الاقتداء طريقًا من طرق الهداية أو الضلال، ولأجل ذلك حذَّر الله تعالى من الاقتداء بالضالين، وبيَّن مآلهم ومآل مَن تبِعهم، فقال تعالى: ﴿ إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ ﴾ [البقرة: 166]، ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ ﴾ [البقرة: 167].



وأمر الله تبارك وتعالى بالاقتداء بالمهتدين، فقال بعد أن ذكر ثمانية عشر نبيًّا: ﴿ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ ﴾ [الأنعام: 90]، وقال عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم خصوصًا: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ﴾ [الأحزاب: 21].



ومن هنا نقول: على كل إنسان يريد السلامة في الدنيا والآخرة أن يكون اقتداؤه بأهل الصلاح والتقوى، خاصة من مات منهم، وعلى رأسهم أنبياء الله ورسله عليهم الصلاة والسلام.



عباد الله، إن المتأمل في القرآن الكريم يجد أن الله تعالى ذكر لنا من قصص الأنبياء وأخبارهم وصفاتهم، والثناء عليهم بما امتازوا به من أعمال حسنة، وخِلال صالحة - ما فيه مادة غنية كافية في باب الأسوة الحسنة، فحري بمن أراد الاهتداء أن يسلك طريق الاقتداء بأولئك الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.



وقد كان من أولئك النبيين الذين أثنى الله عليهم في القرآن، وجعلهم مثلًا للاقتداء، بما ذكر من نعوتهم الحسنة، وأعمالهم الطيبة: خليل الرحمن إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فقد ورد في ذكره آيات كثيرة في سور متعددة، سنقتصر في هذه الخطبة على ذكر تعريف به عليه السلام، وبيان صفاته، والتعريف بأسرته، وثناء الله عليه، عليه الصلاة والسلام، وبيان بعض العظات والعبر من ذلك.



أيها المسلمون، إبراهيم كما قال بعض أهل العلم هو اسم قديم ليس بعربي، بل هو اسم سرياني قيل في معناه: أب رحيم، وقيل: مشتق من البرهمة، وهي شدة النظر، وهو ابن آزَر، ويصل نسبه إلى سام بن نوح[2]، وأبوه آزر بقي على دين قومه وأبى أن يُسلم، وقد دعاه إبراهيم فلم يستجب؛ قال تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ﴾ [الأنعام: 74].



وكان آزر قد وعد إبراهيم بالإيمان، فكان إبراهيم يستغفر له، فلما تبيَّن له عدم إيمان أبيه، وأنه سيموت كافرًا ترك الاستغفار له، وتبرأ منه؛ قال تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ ﴾ [التوبة: 114].



وقد ولُد إبراهيم عليه السلام في أرض الكلدانيين في بابل من بلاد العراق، وخرج عنها مع أبيه إلى حوران، ثم هجر قومه، فتنقل بين بيت المقدس ومصر والحجاز[3].



وتزوج بسارة وقدِم بها مصر لجلب الطعام، فوشِي بحسنها إلى ملك تلك البلاد، فأراد انتزاعها من إبراهيم، فكفَّ الله يد الفاجر عنها، وأعطاها خادمًا لها وهي هاجر[4].



فخرج إبراهيم عليه السلام بأهله من مصر، ولكنه ظل مدة طويلة لا يولَد له، فقد كانت زوجه سارة عقيمًا، فلما أُهديت لها هاجر أهدتها لزوجها إبراهيم، فولدت هاجر إسماعيل عليه السلام، فكان بذلك بشارة عظيمة لإبراهيم بعد طول انتظار، فقد جاءه بكرُه إسماعيلُ وعمرُ الخليل عليه السلام آنذاك ست وثمانون سنة[5]، وكان ذلك مكافأة من الله تعالى له حينما هجر وطنه وقومه وعشيرته من أجله، فأبدله الله أرضًا خيرًا من أرضه، ووهب له بدل أهله من البنين نسلًا صالحًا وذرية مباركة جعل فيها النبوة والكتاب.



وكان لإسماعيل موقع عظيم في قلب أبيه، فأراد الله أن يختبره ويبتليه، فأمرَه بذبحه، فلما سارع إبراهيم إلى تنفيذ أمر ربه دون تردُّد، فدى إسماعيل بكبش عظيم وأبقى الله لإبراهيم وحيده حيًّا؛ قال تعالى: ﴿ وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ * رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ * فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ * فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الصافات: 99-111].



ومرَّت سنون وما زالت سارة على عقمها، وهي مشتاقة إلى ولد منها، فلما رأى تعالى شوقها وصبرها وإيمانها، بشَّرها بولادة إسحاق - وقد كان بين إسماعيل وإسحاق ثلاث عشرة سنة - وزادها الله مع زوجها إبراهيم في البشارة مجيء يعقوب من إسحاق، فهي بشارة بالابن والحفيد في وقت واحد، وهي بشارة كذلك بحياة إسحاق حتى يتزوج ويولد له؛ قال تعالى: ﴿ وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ * قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ * قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ ﴾ [هود: 71-73]؛ قال بعض المفسرين: "أي: ويولد لهذا المولود ولدٌ في حياتكما، فتقر أعينكما به كما قرَّت بوالده، فإن الفرح بولد الولد شديد لبقاء النسل والعقب، ولما كان ولد الشيخ والشيخة قد يتوهَّم أنه لا يَعْقب لضَعفه، وقعت البشارة به وبولده باسم "يعقوب"، الذي فيه اشتقاق العقب والذرية، وكان هذا مجازاة لإبراهيم عليه السلام، حين اعتزل قومه وتركهم، ونزح عنهم وهاجر من بلادهم ذاهبًا إلى عبادة الله في الأرض، فعوضه الله عَزَّ وجل عن قومه وعشيرته بأولاد صالحين من صُلبه على دينه؛ لتقر بهم عينُه"[6].



ولهذا تكونت من ذرية إبراهيم عليه السلام أممٌ وشعوب، فكان هو الأب الثالث للعالم كما قيل بعد آدم ونوح، بل لم يأت نبي بعده إلا من ذريته؛ قال تعالى: ﴿ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنِ الصَّالِحِينَ ﴾ [العنكبوت: 27]، "فكل نبي أرسله الله، وكل كتاب أنزله الله بعد إبراهيم، ففي ذريته صلوات الله وسلامه عليه"[7].



عباد الله، لقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في وصف خِلقة أبيه إبراهيم أنه كان رجلًا طويلًا بائن الطول، وأن أشبه الناس به في صورته نبينا محمد عليه الصلاة والسلام؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أتاني الليلة آتيان، فأتينا على رجل طويل لا أكاد أرى رأسه طولًا، وإنه إبراهيم صلى الله عليه وسلم)[8]، وقال عليه الصلاة والسلام: (أما إبراهيم، فانظروا إلى صاحبكم)[9]؛ يعني: نفسه صلى الله عليه وسلم، وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: (اختتن إبراهيم عليه السلام وهو ابن ثمانين سنة بالقدوم) [10]. قال بعض العلماء: "إبراهيم أول من اختتن، ولم يزل ذلك سنة عامة معمولًا بها في ذريته وأهل الأديان المنتمين إلى دينه، وهو حكم التوراة على بني إسرائيل كلهم، ولم تزل أنبياء بني إسرائيل يختتنون حتى عيسى صلى الله عليه وسلم"[11].



أيها المسلمون، لقد اصطفى الله تعالى إبراهيم لنبوته، فجعله حاملًا لرسالته إلى خلقه، بعد أن ألهمه الحق والهدى من صغره؛ كما قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ ﴾ [الأنبياء: 51]، وقال: ﴿ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [النحل: 121].



وكلفه سبحانه وتعالى "بالإخلاص له والاستسلام والانقياد، فأجاب إلى ذلك شرعًا وقدرًا"[12]؛ كما قال تعالى: ﴿ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [البقرة: 131].



وأمره تبارك وتعالى بالقيام بتكاليف وأوامر عديدة، فقام بها خيرَ قيام؛ فلذلك قال تعالى عنه: ﴿ وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى ﴾ [النجم: 37]، وقال: ﴿ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ﴾ [البقرة: 124].



إن الخليل عليه السلام حينما وصل إلى تلك الدرجة السامية من التوحيد وكمال الطاعة، جعله الله تعالى إمامًا للناس في الخير يقتدون به، وجعل ما عليه من الدِّين هو الملة التي أمر باتباعها؛ فإنه عليه الصلاة والسلام قد "جَرَّد توحيد ربه تبارك وتعالى، فلم يَدْع معه غيره، ولا أشرك به طرفة عين، وتبرأ من كل معبود سواه، وخالف في ذلك سائر قومه حتى تبرأ من أبيه"[13].



فقال تعالى في إعطائه الإمامة: ﴿ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ﴾ [البقرة: 124].



وذكر تعالى أن من عدل عن هذه الملة الإبراهيمية بعد أن بيَّن الله صلاحها وأثنى على إمامها؛ فإن ذلك المائل عنها جاهل أهان نفسه، فقال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ ﴾ [البقرة: 130].



وقال تعالى آمرًا باتباعه، ومبينًا سلامة معتقده وطريقه: ﴿ ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [النحل: 123].



وذكر الله أن أحسن الدين هو الانقياد التام لله تعالى، مع الإحسان في ذلك واتباع ملة إبراهيم، فقال تعالى: ﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ﴾ [النساء: 125].



لقد كان المشركون وأهل الكتاب يدعون أنهم على ملة إبراهيم، فكذبهم الله جميعًا بسبب شركهم وكفرهم، وبيَّن أن أتباعه على الحقيقة هم نبينا محمد والذين آمنوا، فقال تعالى: ﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالإِنجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ * هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ * مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 65-68].



وهذا نبينا محمد عليه الصلاة والسلام يعلمه الله أن يقول: ﴿ قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [الأنعام: 161]، وكان هذا ردًّا على المشركين.



وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول إذا أصبح: (أصبحنا على فطرة الإسلام، وكلمة الإخلاص، ودين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وملة أبينا إبراهيم حنيفًا وما كان من المشركين)[14].



عباد الله، إن خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام نال نصيبًا وافرًا من ثناء الله عليه؛ جزاءً لتمام انقياده وتسليمه، وكمال توحيده وإيمانه، وحُسن قيامه بأوامر ربه، فأثنى عليه بإتمام طاعته، ووفائه بحق عبادته، فقال: ﴿ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ﴾ [البقرة: 124]، وقال: ﴿ وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى ﴾ [النجم: 37].



ووصفه تعالى بحسن إكرام الضيف برد السلام، وتقديم أحسن الطعام، والمسارعة إلى ذلك الإكرام، فقال: ﴿ وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ * فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ ﴾ [هود: 69-70]، وقال في الذاريات: ﴿ فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ * فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ ﴾ [الذاريات: 26-27]، وأثنى عليه بكثرة الحلم والتضرع والتوبة إلى الله تعالى، فقال: ﴿ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ ﴾ [هود: 75]، ووصفه بسلامة قلبه من كل اعتقاد باطل وخُلق سيئ، فقال: ﴿ إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾ [الصافات: 84]، ونعته بكونه إمامًا في الخير، موحدًا لله غير مشرك به، كثيرَ الطاعة والشكر لله على نعمه، فقال تعالى: ﴿ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ ﴾ [النحل: 120-121].



أيها الأحبة الفضلاء، إن الله تعالى شكور كريم، يكافئ عبده الصالح على صلاحه في دنياه وآخرته؛ مكافأة حسية، ومكافأة معنوية، فإبراهيم عليه السلام لما صار إلى المنزلة العالية من تمام الانقياد والقيام بكل ما أمر ربُّه به، أوصله الله إلى درجة الخلة - وهي أعلى درجات المحبة - فأحبه الله حبًّا عظيمًا؛ قال تعالى: ﴿ وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا ﴾ [النساء: 125].



عن عمرو بن ميمون أن معاذًا رضي الله عنه لما قدِم اليمن صلى بهم الصبح، فقرأ: ﴿ وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا ﴾ [النساء: 125]، فقال رجل من القوم: لقد قرَّت عينُ أمِّ إبراهيم[15].



وأثاب الله إبراهيم أيضًا بالثناء الحسن عليه في الآخِرين، وبجعله قدوة صالحة للناس، وأعطاه كذلك بقاء النبوة في ذريته الصالحين من بعده حتى نبينا محمد، كما جعله في الآخرة من أهل المنازل العالية، وإذا جاءت القيامة يكون أول من يُكسى من الناس؛ قال تعالى: ﴿ وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [النحل: 122]، وقال: ﴿ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنِ الصَّالِحِينَ ﴾ [العنكبوت: 27]، وقال: ﴿ وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ ﴾ [الشعراء: 84]، ﴿ وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ ﴾ [الشعراء: 87].



عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يَلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة وعلى وجه آزر قترة وغبرة، فيقول له إبراهيم: ألم أقل لك: لا تَعصني، فيقول أبوه: فاليوم لا أعصيك، فيقول إبراهيم: يا رب، إنك وعدتني ألا تُخزيني يوم يبعثون، فأي خزي أخزى من أبي الأبعد؟ فيقول الله تعالى: إني حرَّمت الجنة على الكافرين، ثم يقال: يا إبراهيم، ما تحت رجليك؟ فينظر فإذا هو بذيخٍ متلطخ، فيؤخذ بقوائمه فيُلقى في النار)[16]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أول من يكسى يوم القيامة إبراهيم)[17].



أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.



الخطبة الثانية

الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على النبي المصطفى، وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فيا أيها المسلمون، من هذه السيرة العطرة لخليل الرحمن إبراهيم عليه الصلاة والسلام، عرَفنا عِظَمَ مكانته في الدنيا والآخرة، وذلك حينما قام بحقِّ العبودية لله وحده حقَّ القيام.



فمن أراد لنفسه صلاح الدنيا والآخرة، فليقُم بطاعة الله كما أحبَّ الله منه، ومن زرع خيرًا في هذه الحياة ابتغاءَ وجه الله، نال جَناه في حياته وبعد مماته.



وفي هذه السيرة النضرة تبيَّن لنا جليًّا أن من ترك شيئًا لله عوَّضه الله خيرًا منه، فمن قدم مرضاة الله على شهوات نفسه، أعطاه الله كفاءَ ذلك ثوابًا عاجلًا وثوابًا آجلًا، وأن البيئات والأقارب إذا كانوا حائلًا بين المؤمن وطاعة الله وتوحيده، فالمفارقة إلى أرض التوحيد، ورُفقاء الطاعة هو سبيل النجاة، وأن البلاء الذي يرافقه صبرُ صاحبه واحتسابه ذلك عند الله، يعقب فرجًا وتيسيرًا ونعمًا متتابعة، وأن المكروه الملازم للمرء لا يجعل صاحب الإيمان ييئَس من تغير الأحوال بذهاب المكروهات وحصول المحبوبات، وأن على الرجل إذا كانت زوجته عقيمًا أن يصبر عليها، ولا مانع أن يتزوج أخرى، وتُعينه زوجته الأولى على ذلك، بل لعل إعانتها له على ذلك تكون سببًا لحملها أيضًا، فيسعدها الله بالولد كما أسعدتْ زوجَها بإعانتها له.



عباد الله، على المؤمن أن يكون قلبه سليمًا من مزاحمة محبوباته لحبِّ الله وما يحبه الله، فيقدم رضا مولاه على رضاه.



وعلى المسلم أن يتَّصف بالصفات الحميدة، والخلال الكريمة، وأن يكون انقياده لشرع الله انقيادًا كاملًا، لا انقيادًا انتقائيًّا حسب الأهواء والشهوات، وأن يحرِص على أن يكون قدوة حسنة لمن بعده، وأن يُبقي له بعد موته ما يستحق عليه الثناء والدعاء من أهل الخير والصلاح.



وعلينا معشر المسلمين أن نعلم أن الخيرات للمؤمن قد تأتي متأخرة، وربما تجيء في أواخر مراحل العمر، فليتفاءل الإنسان ما دامت الحياة، نسأل الله أن يصلح قلوبنا، ويُعيننا على تمام الانقياد لشرعه، وكمال القيام بطاعته، هذا وصلُّوا وسلِّموا على خير البرية.



[1] ألقيت في مسجد ابن الأمير الصنعاني في: 9/ 11/ 1440ه، 12/ 7/ 2019م.

[2] الإتقان في علوم القرآن (4/ 69).

[3] ينظر: قصص الأنبياء (1/ 168).

[4] ينظر حديث أبي هريرة في ذلك في الصحيحين.

[5] تفسير ابن كثير (7/ 27).

[6] تفسير ابن كثير (3/ 297).

[7] تفسير ابن كثير (1/ 209).

[8] رواه البخاري.

[9] متفق عليه.

[10] متفق عليه.

[11] تفسير ابن كثير (1/ 446).

[12] المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (9/ 14).

[13] تفسير ابن كثير (1/ 445).

[14] رواه أحمد ومسلم.

[15] رواه البخاري.

[16] رواه البخاري.

[17] رواه البخاري.





- مِيعآد. 21-12-2019 06:25 PM

-


أبدآعٌك رَبيعٌ فاتِنْ ..
أروتني معرفتٌك حد الإكتفاء
لقلبك بياض لا ينتهي ~

أبو محمد 23-12-2019 06:49 PM

جزاكم الله خير الجزاء على الموضوع القيم
وجعل ذلك في موازين حسناتكِم
بوركت جهودكم

الــوافــي 23-12-2019 10:18 PM

جزاك الله خير
طرح رآقي گ روحـگ
لآعدمنا جمآل ذآئقتگ
وبآنتظار جديد آبداعكگ دائمآ
ودي لك

شيخة الجنوب 23-12-2019 10:23 PM

جزاك الله خير واثابك

أسير الشوق 25-12-2019 11:48 AM

بورك فيكِ
وجزاكِ الله كل خير
وأنار قلبكِ وطريقكِ بنور الهداية والإيمان
طرحتِ فأبدعتِ كتب الله لكِ أجر هذا الطرح
دمتِ في حفظ الله ورعايته

صدى الشوق 26-12-2019 08:06 PM

تسلم على الموضوع

جزاك الله خيرا
وجعلة فى ميزان حسناتك

ʂąɱąя 28-12-2019 07:56 PM

جزاك الله خير :241:

روح 28-12-2019 11:25 PM

متصفح ا نيق ورآقي بمحتوآه
سلمت يدآك ع الطرح
بـ نتظـآر آلمزيد من هذا آلفيـض الراآقي
لك كل الود والاحترام

غريب الشوق 30-12-2019 07:53 AM

طرح في غاية الروعة بارك الله فيك
جزآآك الله خيـــر على الطرح القيم
وجعله الله في ميزآآن حسنآآتك
وان يرزقك الفردووس الاعلى من الجنه
الله لايحرمنآآآ من جديــدك
تحيــآآتي
دمت بود


الساعة الآن 11:49 AM

تصحيح تعريب Powered by vBulletin® Copyright ©2016 - 2024 
new notificatio by 9adq_ala7sas
User Alert System provided by Advanced User Tagging (Lite) - vBulletin Mods & Addons Copyright © 2024 DragonByte Technologies Ltd.
تنويه : المشاركات المطروحة تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس بالضرورة تمثل رأي أدارة آنفاس الحب

Security team

This Forum used Arshfny Mod by islam servant