منتديات انفاس الحب

منتديات انفاس الحب (https://a-al7b.com/vb/index.php)
-   ۩۞۩ أنفاس القصص والروايات الاسلاميه ۩۞۩ (https://a-al7b.com/vb/forumdisplay.php?f=7)
-   -   قصة الخليل إبراهيم وشيء من عبرها (2) (https://a-al7b.com/vb/showthread.php?t=11482)

- آتنفسك❀ 21-12-2019 06:16 PM

قصة الخليل إبراهيم وشيء من عبرها (2)
 
[center]

قصة الخليل إبراهيم وشيءٌ من عِبَرها (2)


إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102]، ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً ﴾ [النساء: 1]، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً ﴾ [الأحزاب: 70-71].



أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي رسوله محمد بن عبد الله، صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.



أيها المسلمون، تناولنا في خطبة ماضية الحديث عن الخليل إبراهيم عليه السلام، وتحدثنا في تلك الخطبة عن الجانب الشخصي من حياته عليه السلام؛ فبينا التعريف به، وبأسرته، وبيان مكانته وثناء الله عليه، وذكر بعض العظات والعبر من ذلك.



واليوم سنتحدث -بعون الله تعالى- عن الجانب الدعوي في قصة إبراهيم عليه السلام؛ فقد ذكر الله تعالى أكثر الآيات المتحدثة عن خليله في هذا الجانب.



عباد الله، إن الدعوة إلى الله هي المهمة التي بعث الله تعالى لأجلها أنبياءه ورسله عليهم الصلاة والسلام، ليعرف الناسُ بها طريق الحق فيسلكوه، وطريق الباطل فيتنكبوه.



فمضى الأنبياء والرسل في دعوة الناس مبشرين ومنذرين، وكان من بينهم الخليل إبراهيم عليه السلام؛ فقد دعا أباه، ووصى ذريته، ودعا قومه المشركين عبدة الأصنام في بابل، ودعا المشركين عبدة الكواكب حينما خرج عن بابل إلى أرض الفينيقيين في حوران من مدينة دمشق.



فبدأ نبي الله إبراهيم عليه السلام دعوته إلى توحيد الله بدعوة أبيه آزر الذي كان يعبد الأصنام مع قومه؛ فبين له الخليل أن عبادة الأصنام ضلال واضح، قال تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ﴾ [الأنعام: 74]. وتلطف في دعوته له تلطفًا عظيمًا، وسلك معه سبيل الموعظة الحسنة فبين له أن الأصنام التي يعبدها وقومه لا تستحق العبادة؛ لكونها عاجزة لا تنفع ولا تضر، وذكر له أن الله قد أعطاه-يعني إبراهيم- من العلم ما يستحق أن يتبعه أبوه ليهديه به إلى الحق، وأعلمه أن عبادة الأصنام هي عبادة للشيطان لكونه الداعي إلى ذلك، وزاد في حرصه على دعوته كونه يخاف عليه عذاب الله، ويخشى أن يكون قرين الشيطان في النار. لكن الأب المشرك لم يتقبل هذه الدعوة من إبراهيم إلا بالجفاء والوعيد، حيث توعد ولده الموحد النبي بالقتل رميًا بالحجارة إن لم ينته عن سب الأصنام، غير أن إبراهيم رد عليه رداً جميلاً بأنه لن يصل إليه منه مكروه، وسيدعو له بالهداية والمغفرة، وقد دعا له، لكن لما تبين أنه عدو لله ترك الاستغفار له. قال تعالى: ﴿ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا * قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آَلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا * قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا * وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا﴾ [مريم: 41-48].



من هذه الآيات الكريمات يستفاد:

أن أولى الناس بدعوة الداعي إلى الحق أهله وذووه، لكن عليه أن يدعوهم باللطف وحسن الأسلوب، وأن يتحمل جفاءهم، وأن لا يصل إليهم منه مكروه، وأن يدعو لهم بالهداية والمغفرة. وأن هجر البيئة الضالة مما ينبغي فعله، ولكن بعد دعوة أهلها، وظهور عدم استجابتهم، فالحفاظ على رأس المال أولى من الأرباح.



أيها الأحباب، وبعد أن هجر إبراهيم أرضه وقومه وأهله وهب الله له الذرية الصالحة؛ لتكون عوضًا عن أهله الذين فارقهم من أجل الله، فرزقه الله إسماعيل وإسحاق ومن جاء من نسلهم من الصالحين.



وقد كان من دعوة إبراهيم لذريته أن أوصاهم بلزوم ملة الإسلام وكلمة التوحيد، وتمام الاستسلام والانقياد لله تعالى، قال تعالى: ﴿ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴾ [البقرة: 132-133].



فإبراهيم وأبناؤه" لحرصهم [على ملة الإسلام] ومحبتهم لها حافظوا عليها إلى حين الوفاة، ووصوا أبناءهم بها من بعدهم"[2]. وقال تعالى: ﴿ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ [الزخرف: 28].



وهذا يعلمنا أن نلزم الانقياد التام لله تعالى، ونوصي أولادنا أن يكونوا كذلك.



ونتعلم من الآيات أن على الآباء أن يحرصوا على وصية أولادهم بما يضمن استمرارهم على جادة الحق، و" لما كان من شأن أهل الحق والحكمة أن يكونوا حريصين على صلاح أنفسهم وصلاح أمتهم؛ كان من مكملات ذلك أن يحرصوا على دوام الحق في الناس متبعًا مشهوراً، فكان من سننهم التوصية لمن يظنونهم خلفًا عنهم في الناس بأن لا يحيدوا عن طريق الحق ولا يفرطوا فيما حصل لهم منه؛ فإن حصوله بمجاهدة نفوس ومرور أزمان، فكان لذلك أمراً نفيسًا يجدر أن يحتفظ به"[3].



أيها المسلمون، لقد اتجه إبراهيم عليه السلام بعد دعوة أبيه إلى دعوة قومه المشركين، وقد واجه خليل الرحمن ثلاثة أصناف من المشركين: صنف يعبدون الأصنام، وهم أهل بابل، وصنف يدعي الربوبية، وهو نمرود ملك بابل، وصنف يعبدون الكواكب، وهم أهل حوران في دمشق.



وكان من توفيق الله تعالى لإبراهيم أن أعطاه قوة الحجة، وحسن المناظرة، ومعرفة البراهين العقلية التي احتج بها على خصومه، قال تعالى: ﴿ وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ﴾ [الأنعام: 83].



فمضى إبراهيم عليه السلام إلى الصنف الأول عبدة الأصنام ليقيم عليهم الحجة ببطلان عبادة تلك المعبودات الزائفة، وقد سلك في مهمته هذه عدة طرق:

الأولى: توجيه السؤال إليهم، وهو تمهيد بين يدي المناظرة، وقد أراد به سماع جوابهم عن اعتقادهم، ومن ثَم ينتقل لإبطاله بالحجج والبراهين. ففي سورة الأنبياء قال لهم: ﴿ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ ﴾ [الأنبياء: 52]، فكان جوابهم: ﴿ وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ ﴾ [الأنبياء: 53]، فاحتجوا على عبادتهم لها بالتقليد الأعمى للآباء، " وجاؤوا في جوابه بما توهموا إقناعه به وهو أن عبادة تلك الأصنام كانت من عادة آبائهم فحسبوه مثلهم يقدس عمل الآباء ولا ينظر في مصادفته الحق"[4].



وفي سورة الشعراء قال لهم: ﴿ مَا تَعْبُدُونَ ﴾ [الشعراء: 70]. فكان جوابهم: ﴿ نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ ﴾ [الشعراء: 71]، فبينوا بهذا الجواب شدة تعلقهم بها باستمرارهم في عبادتها، وعكوفهم عندها.



وفي هذا بيان قوة تعلق أهل الباطل بباطلهم.



وأما في سورة الصافات فابتدأهم بسؤال مردَف بسؤالين آخرين، غير منتظر منهم الجواب؛ لأنه أراد الإنكار عليهم وتوبيخهم، فقال: ﴿ مَاذَا تَعْبُدُونَ * أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ * فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الصافات: 85-87].



الطريقة الثانية: الحكم عليهم بالضلال، وتسفيه أحلامهم ومعبوداتهم الباطلة، فإنه حينما سماع جوابهم بأنهم يقلدون آباءهم في ذلك قال لهم: ﴿ لَقَدْ كُنتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ﴾ [الأنبياء: 54]، ولما اعترفوا له بكون أصنامهم عاجزة عن النطق قال لهم: ﴿ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلا يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ ﴾ [الأنبياء: 66-67].



الطريقة الثالثة: بيان عيوب تلك المعبودات الباطلة، وأنها بتلك النقائص لا تستحق العبادة، فأصنامهم لا تنفع ولا تضر، فلذلك قال لهم: ﴿ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلا يَضُرُّكُمْ ﴾ [الأنبياء: 66]، وأخبرهم أن أصنامهم لا تسمعهم إذا دعوها، ولا تنفعهم إذا رجوها، فقال: ﴿ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ ﴾ [الشعراء: 72-73]، وبيّن لهم أن أصنامهم لا تملك لعابديها رزقًا، وإنما يملكه الله وحده؛ فلذلك قال لهم: ﴿ إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [العنكبوت: 17]، وذكّرهم أن أصنامهم إنما صنعوها بأيديهم فكيف يصح أن تكون آلهة ويترك الله الذي خلقهم وما يعملون؟! فلذلك قال لهم: ﴿ قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [الصافات: 95-96].



الطريقة الرابعة من طرق دعوة إبراهيم قومه عبدة الأصنام: بيان صفات الله المعبود الحق، التي بها وبغيرها استحق أن يكون ربًّا وإلهًا للخلق، فقد بيّن لقومه المشركين بأن إلهه الذي يعبده ويدعوهم إلى عبادته هو ربهم ورب السماوات والأرض الذي خلقهن، فقال لهم: ﴿ بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ ﴾ [الأنبياء: 56]. كما ذكر لهم أن المعبود الحق الذي يدعوهم إلى عبادته هو الذي خلقه، وهو الذي يطعمه ويسقيه بما سخر له في الأرض من أسباب ذلك، وهو الذي يشفيه إذا مرض، وهو الذي يميته ويحييه، وهو الذي يطمع في مغفرته. فقال: ﴿ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ ﴾ [الشعراء: 78-82].



وأخبرهم أيضًا بأن الله المعبود الحق هو الذي ينشئ الخلق من العدم ثم يعيده بعد فنائه، وأنه يعذب من يشاء ويرحم من يشاء، وإليه يرجع الخلق للحساب، وأنه لا يفوته من يطلبه، وليس له من دونه ولي ولا نصير يخلصه، ومن كان كذلك فهو الذي يستحق أن يعبد لا تلك المعبودات العاجزة، فقال لهم: ﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ * وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ ﴾ [العنكبوت: 19-22].



الطريقة الخامسة: إعلان البراءة من الأصنام، وإبداء العداوة والبغضاء لعابديها حتى يؤمنوا بالله وحده، قال تعالى: ﴿ قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ ﴾ [الممتحنة: 4].



الطريقة السادسة: تحطيم الأصنام؛ لبيان عجزها عن نصرة نفسها، فكيف ستدفع عنهم أو تنفعهم، وقد استغل إبراهيم عليه السلام خلو البلد من الناس حيث خرجوا ليوم عيد لهم، فأقبل على تلك الأصنام فكسرها إلا كبيرها؛ ليقيم عليهم الحجة به. فقد أسرع إبراهيم بعد خروج قومه إلى قبو أصنامهم فجعل يسألها مستهزئًا-والطعام أمامها-: ﴿ أَلا تَأْكُلُونَ ﴾ ﴿ مَا لَكُمْ لا تَنطِقُونَ ﴾ [الصافات: 91-92]. ثم انهال عليها تكسيراً وتحطيمًا حتى جعلها قطعًا صغيرة، تاركًا كبيرها ليرجعوا إليه فيسألوه، قال تعالى: ﴿ فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ ﴾ [الصافات: 93]، وقال سبحانه: ﴿ فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ ﴾ [الأنبياء: 58].



فماذا سيكون رد قومه المشركين، وكيف سيتعاملون مع هذا الفعل الذي لم يفعله أحد بمعبوداتهم قبل إبراهيم عليه السلام؟



لقد بلغهم الخبر فرجعوا مسرعين غاضبين فسألوا عن الفاعل فأُخبروا أنه إبراهيم، فطلبوا إحضاره أمام الناس ليشهدوا على اعترافه، وهذا ما أراده إبراهيم عليه السلام؛ حتى يقيم عليهم الحجة، ويبين عجز معبوداتهم الباطلة أمام الحاضرين أجمعين، فلما سألوه أحال الجواب على كبير الأصنام؛ لعلهم أن يعرفوا ضلالهم بعجز الصنم عن النطق، فصاروا في حيرة من أمرهم، ثم غلبهم شركهم فقالوا: إن صنمهم لا ينطق، وهنا وصل إبراهيم إلى غايته وهي كيف تسمح لكم عقولكم بعبادة شيء هذا شأنه من العجز؟!

قال تعالى: ﴿ قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ * قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ * قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ * قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ * فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ * ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ * قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ [الأنبياء: 59-67].



فلما عجزوا عن إجابة الحجة بالحجة لجؤوا إلى استعمال الظلم والقوة، فأمروا بقتله حرقًا، حيث أوقدوا ناراً عظيمة في بنيان يستوعب ذلك الحطب، ثم رموا إبراهيم فيها، قال تعالى: ﴿ قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ ﴾ [الصافات: 97]، وقال: ﴿ قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ ﴾ [الأنبياء: 68]، غير أن عناية الله كانت تنتظر خليل الرحمن فجعل الله تعالى له النار برداً وسلامًا فلم تحرق منه غير قيده، فخرج منها منصوراً ولم يستطيعوا أن يضروه بشيء بعد ذلك، قال تعالى: ﴿ قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ ﴾ [الأنبياء: 69-70].



عباد الله، وفي هذه الآيات من العبر: أن الحق يحتاج إلى إظهار حججه للناس، وتنويع طرق إقناعهم به، وأن الحق يقوى بقوة أهله الذين ينشرونه ويدافعون عنه، وأن الباطل لا يمتلك حجة تمكنه من صد دعوة الحق، ولكنه يلجأ إلى استعمال القوة فحسب.



أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.



الخطبة الثانية

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:

أيها المسلمون، والصنف الثاني الذين دعاهم الخليل عليهم السلام إلى الله تعالى: صنف يدعي الربوبية، وهو النمرود ملك بابل، فقد ناظره إبراهيم مناظرة سريعة، أفحمته عن الاستمرار في جهله وحمقه، وبينت له قلة عقله. قال تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ [البقرة: 258].



فقد أخبره إبراهيم في مجادلته إياه أن الله يحيي عباده من العدم ويعيدهم بعد الفناء، فردَّ: إنه يميت بالقتل من يشاء، ويحييه بالعفو عنه إن شاء، وهذا تلبيس وتمويه لا يخفى على عاقل، فلم يقف إبراهيم عند هذه المغالطة طويلاً لوضوح عوارها، بل انتقل إلى حجة أخرى لا يمكن للطاغية أن يلبِّس فيها، فقال: ﴿ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ ﴾ "أي: إذا كنت كما تدعي من أنك تحيي وتميت فالذي يحيي ويميت هو الذي يتصرف في الوجود، في خلق ذواته وتسخير كواكبه وحركاته. فهذه الشمس تبدو كل يوم من المشرق، فإن كنت إلهاً كما ادعيت فأت بها من المغرب: ﴿ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ ﴾ تحير ودهش وغلب بالحجة، لما علم عجزه وانقطاعه، وأنه لا يقدر على المكابرة في هذا المقام"[5].



وهذه الآية تعلِّم الداعية أسلوبًا من أساليب المناظرة مع المبطلين وهو البدء بتمهيد بين يدي المناظرة، والانتقال من حجة إلى حجة أخرى تفحم الخصم، وتختم بها المناظرة.



عباد الله، الصنف الثالث الذين دعاهم إبراهيم إلى توحيد الله هم عبدة الكواكب وهم أهل حوران في دمشق[6]. فقد ناظرهم وبين لهم بطلان عبادة تلك الكواكب وأنها" لا تصلح للألوهية، ولا أن تعبد مع الله عز وجل؛ لأنها مخلوقة مربوبة مصنوعة مدبَّرة مسخرة، تطلع تارة وتأفل أخرى، فتغيب عن هذا العالم، والرب تعالى لا يغيب عنه شيء ولا تخفى عليه خافية، بل هو الدائم الباقي بلا زوال، لا لا إله إلا هو ولا رب سواه.



فبين لهم أولاً عدم صلاحية الكواكب لذلك، ثم ترقى منها إلى القمر الذى هو أضوأ منها وأبهى من حسنها، ثم ترقى إلى الشمس التي هي أشد الأجرام المشاهدة ضياء وسناء وبهاء، فبين أنها مسخرة مسيرة مقدرة مربوبة، كما قال تعالى: ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ﴾ [فصلت: 37]"[7].



قال تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ * فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآَفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ * وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ * وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آَتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ﴾ [الأنعام: 75-83].



إن إبراهيم عليه السلام في هذا المقام يناظر المشركين فهو في مقام مناظرة وليس في مقام نظر، وقوله في هذه الآيات الكوكب والقمر والشمس: " هذا ربي" ليس من باب الإقرار بل هو من باب المجادلة ليثبت للناس بطلان عبادتها[8].



فإبراهيم عليه السلام إمام الموحدين، الذين نفى الله عنه أن يكون من المشركين في جميع الزمن الماضي، فلا يليق بإمام الحنفاء أن يشك في ربه، ويذهب يبحث عنه بين الكواكب. وسياق الآيات يدل على أنها محاججة، وإثبات لوحدانية الله، ونفي استحقاق غيره للعبادة.



فيا أيها المسلمون، ليكن همُّ دين الله حاضراً في أذهاننا، فندعو إليه، وندافع عنه، ونحرص على العمل به وتعليمه، ومن كان لديه القدرة والعلم على مناظرة أهل الباطل لردهم إلى جادة الصواب فليفعل.



هذا وصلوا وسلموا على خير البرية....


[1] ألقيت في مسجد ابن الأمير الصنعاني في: 23/ 11/ 1440ه، 26/ 7/ 2019م.

[2] تفسير ابن كثير (1/ 446).

[3]التحرير والتنوير (1/ 707).

[4] التحرير والتنوير (17/ 69).

[5] محاسن التأويل تفسير القاسمي (2 / 3).

[6] قصص الأنبياء (1/ 168) (1/ 175).

[7] قصص الأنبياء (1/ 174).

[8] ينظر: تفسير ابن كثير (3/ 289)، قصص الأنبياء (1/ 174)، أضواء البيان (1/ 486).




- مِيعآد. 21-12-2019 06:26 PM

-


أبدآعٌك رَبيعٌ فاتِنْ ..
أروتني معرفتٌك حد الإكتفاء
لقلبك بياض لا ينتهي ~

أبو محمد 23-12-2019 06:49 PM

جزاكم الله خير الجزاء على الموضوع القيم
وجعل ذلك في موازين حسناتكِم
بوركت جهودكم

الــوافــي 23-12-2019 10:19 PM

جزاك الله خير
طرح رآقي گ روحـگ
لآعدمنا جمآل ذآئقتگ
وبآنتظار جديد آبداعكگ دائمآ
ودي لك

شيخة الجنوب 23-12-2019 10:28 PM

جزاك الله خير الجزاـ واثابك

أسير الشوق 25-12-2019 11:49 AM

بورك فيكِ
وجزاكِ الله كل خير
وأنار قلبكِ وطريقكِ بنور الهداية والإيمان
طرحتِ فأبدعتِ كتب الله لكِ أجر هذا الطرح
دمتِ في حفظ الله ورعايته

ʂąɱąя 25-12-2019 10:44 PM

بارك الله فيك على الموضوع القيم
والمميز وفي انتظار جديدك الأروع
والمميز لك مني أجمل التحيات
وكل التوفيق لك يا رب

ʂąɱąя 25-12-2019 10:44 PM

بارك الله فيك على الموضوع القيم
والمميز وفي انتظار جديدك الأروع
والمميز لك مني أجمل التحيات
وكل التوفيق لك يا رب

صدى الشوق 26-12-2019 07:59 PM

تسلم على الموضوع

جزاك الله خيرا
وجعلة فى ميزان حسناتك

غريب الشوق 30-12-2019 07:52 AM

طرح في غاية الروعة بارك الله فيك
جزآآك الله خيـــر على الطرح القيم
وجعله الله في ميزآآن حسنآآتك
وان يرزقك الفردووس الاعلى من الجنه
الله لايحرمنآآآ من جديــدك
تحيــآآتي
دمت بود


الساعة الآن 02:57 AM

تصحيح تعريب Powered by vBulletin® Copyright ©2016 - 2024 
new notificatio by 9adq_ala7sas
User Alert System provided by Advanced User Tagging (Lite) - vBulletin Mods & Addons Copyright © 2024 DragonByte Technologies Ltd.
تنويه : المشاركات المطروحة تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس بالضرورة تمثل رأي أدارة آنفاس الحب

Security team

This Forum used Arshfny Mod by islam servant