☂ الحب تحت المطر ☇☁
الحب تحت المطر ل/ نجيب محفوظ (١) تيارٌ من الخلق لا ينقطع، يتلاطم في جميع الاتجاهات، تندُّ عنه أصواتٌ من شتى الطبقات، ويُشكِّل في جملته خليطًا من ألوان الطيف. سارا جنبًا إلى جنب صامتَين؛ هي في فستانٍ بنيٍّ قصير، وشعرها الأسود يتهدَّل حول الرأس وفوق الجبين. وهو بقميصه الأزرق وبنطلونه الرمادي وشعره المرسَل إلى اليمين. في عينَيها نظرةٌ عسليةٌ مستطلعة، وفي عينَيه جحوظٌ خفيف، ولكنه يوائم تمامًا أنفه الحادَّ المستقيم. وبقدر ما استسلمت للمشي كان هو يتحيَّن الفرص. قال: الزحام لا يُطاق. فتمتمت باسمةً: ولكنه مسلٍّ للغاية. واعتبر ردَّها مناورةً لطيفة ليس إلا، بل استجابةً لرغبته القلبية. وأشار بذراعه المفتولة إلى كافتيريا هارون، فمالت معه إليها بلا تردد. ومضيا إلى الحديقة الخلفية، فاختار مجلسًا شبه خالٍ تحت تكعيبة اللبلاب، وتفحَّصا المكان، وتبادلا نظرات. استشعر دون شكاية حرارة الجو المشبعة بالرطوبة، وطلب قدحَين من شراب الليمون. وكان يتوثب للكلام فيما يهمه، ولكنه قال لنفسه فليأتِ الكلام في وقته وبطريقةٍ عفوية، فهذا أفضل. قال: مضى عهد الجامعة كحلم. فقالت تكمل جملته: بمتاعبه ومسرَّاته. – وما هي إلا أشهر، حتى يتسلم كلٌّ منا وظيفته. فأحنت رأسها بالإيجاب، ثم تساءلت: ولكن إلى أين تمضي الدنيا؟ هذ السؤال الذي يرتطم به في كل مكانٍ وزمان. إلى أين؟ حرب أم سلام؟ وطوفان الشائعات؟ – لتمضِ إلى حيث تشاء. وشربا الليمون، حتى دمعت عيناهما، ثم سألها: وما أخبار أخيك إبراهيم؟ – بخير، رسائله قليلة، ولكنه يجيء من الجبهة مرةً كل شهر. وكأنما أرادت أن تعتذر عنه فقالت: مرزوق .. لو لم تكن وحيد أبويك لاستُدعِيت مثله إلى الجندية! فلم يعلق بحرف، واستسلما معًا للصمت. وعاوده التوثب للكلام في موضوعه، فقال ضاحكًا: لا يجوز أن نضفي البراءة على اجتماعنا أكثر من ذلك. فلعبت في عينَيها نظرةٌ مرحة وقالت: إذن فاجتماعنا بريء! فقال بجدية: أعني الموضوع الذي حدثتْكِ عنه أختي سنية. فقالت بحذر: لا تنقصك الصديقات فيما أعلم؟ فقال بجديةٍ أكثر: نحن نتحرك بدافع اللهو كثيرًا، ثم يجيء وقت فلا يقنعنا إلا الحب الحقيقي. – الحقيقي؟ – هذا ما أعنيه تمامًا يا عليات. فترددت قليلًا، ثم تساءلت: ألا يُعدُّ الزواج في حالتكَ سابقًا لأوانه؟ فقال بازدراء: ذلك من كلام السلف، ولكن لا أهمية للوقت ما دمنا نسيطر على مصيرنا. فسألته باهتمام: وهل أنت واثقٌ من مشاعرك؟ فرمقها بحنانٍ وهو يقول: من عيوبي الجوهرية أنني لا أحسن التعبير عن مشاعري، كم مرة التقينا؟ ومع ذلك فلم أُنوِّه بجمالك أو ثقافتك مرةً واحدة. ولما لم تنبس سألها بحرارة: لمَ لا تتكلمين؟ فقالت وهي تتنهد: لا أدري، كأنني خائفة! فقال برقَّة: الحق أني أحبك كأعزِّ شيءٍ في الدنيا. فغمغمت باسمة: هذا أفضل. فضحك بسرورٍ وقال: عندي ما هو أجمل! واعترفت قائلة: والحق أني لم أكن سلبية في المعركة، وأنت تعلم ذلك. فاستخفَّه الطرب وقال: اعتبريني مجنونًا بكِ! فخفضت بصرها وهمست: وأنا سعيدة كما يجدر بإنسانٍ يبادلك مشاعرك! فاجتاحه السرور والإلهام وقال: ما كان أحب إليَّ أن أتلقَّى هذه السعادة في مكانٍ لا يشاركنا فيه أحد. وضحكا معًا. وصمتا وهما يتبادلان النظرات. واقترح عليها الذهاب إلى حديقةٍ ما. وقاما وهي تقول: لا تنسَ أنه توجد في الطريق متاعب. فهزَّ منكبَيه قائلًا: أعتقد أنها متاعب لا تُذكَر بالقياس إلى متاعب العالم. |
https://images.media.iqraaly.com:444...1651445884.png (2) انتصف الليل، فخلا مقهى الانشراح بشارع الشيخ قمر من زبائنه. لم يبقَ من عماله إلا عم عبده بدران النادل، وعشماوي ماسح الأحذية. ومضى عشماوي بهيكله الضخم الخاوي إلى الخارج، فجلس القرفصاء جنب مدخل المقهى ينظر إلى لا شيء بعينَيه العمشاوين. أما عم عبده فاقتعد كرسيًّا وسط المدخل، وأشعل سيجارة. وبعد ربع ساعة مرقت سيارة مرسيدس بيضاء أمام المقهى، ثم وقفت على مبعدةٍ يسيرة لصق الطوار، فرفع عشماوي رأسه نحوها وهو يقول: الأستاذ حسني حجازي. وقام عم عبده بدران ليستقبل القادم، الذي أقبل بجسمه الطويل النحيل، ورأسه الضخم رافلًا في بدلةٍ بيضاءَ آيةٍ في الأناقة. حيَّا الرجلَين باسمَيهما، واتخذ مجلسه، على حين مضى عم عبده ليجيئه بالنارجيلة، وزحف عشماوي ناحيته ليمسح حذاءه. ولأن حسني حجازي هو زبون ما بعد منتصف الليل الوحيد — كلما سمح له الوقت — فقد نشأت بينه وبين الرجلَين علاقةٌ حميمة، وحوارٌ متبادل. والحق أنه يأنس إلى وقار عم عبده — في الستين من عمره — ويعجب ببذلة عمله العتيقة، وصلعته المستديرة الضاربة للاحمرار، ونظرة عينَيه الثقيلة الطيبة. وأيضًا فهو يعجب كثيرًا بعشماوي الذي لا يُعرَف له سن، وإن قدره بما بين السبعين والثمانين، ويثيره منظر هيكله الضخم الخاوي كحفرةٍ متبقية من زمن الفتونة، ويحيي بكل إجلال صموده في معترك الحياة، رغم هوان الصحة والسمع والنظر وزوال المجد. وكان عم عبده يُعنى بنارجيلة الأستاذ عنايةً خاصة. لا من أجل البقشيش فحسب، ولكن لعلمه بأنها السر وراء زيارات الأستاذ للانشراح، بالإضافة إلى حنينه إلى مسقط رأسه بشارع الشيخ قمر. والأستاذ حسني في الخمسين، ولكنه يفيض بحيويةٍ عجيبة، ولم تشب له شعرةٌ واحدة، ويبدو أنه يسعد حقيقة بوجوده في المقهى المتواضع بين صاحبَيه، وفي مناجاته الطويلة مع النارجيلة. وكالعادة بدأ الحديث بتبادل النيران في الجبهة، وتساؤلاتٍ عن الغد القريب والبعيد، وكلماتٍ رقيقة بقصد الاطمئنان على إبراهيم ابن عم عبده، وغيره من المجندين من أهل درب الحلة موطن عشماوي. وكان يعتبر عشماوي نموذجًا لجماهيرَ غفيرةٍ لا يُتاح له الاتصال بها، هي المتحمسة حقًّا للقتال بلا قيدٍ ولا شرط، وبلا خوف، وبلا اكتراث للعواقب. وقال لنفسه علامَ يخافون وهم لا يملكون إلا الكرامة والأسطورة؟ وقال لنفسه أيضًا إن المعذبين حقًّا هم الوطنيون الصادقون. ولما فرغ عشماوي من مسح الحذاء اقترب عم عبده بدران من مجلس الأستاذ ومال نحوه قليلًا وهو يقول: عليات ابنتي طلب يدها شاب من زملائها. فانبعث في صدر الأستاذ اهتمامٌ حقيقي، وقال: مبارك يا عم عبده. فقال برضًى وفي غير ما حماس: الستر مطلوب، ولكن العريس — مثلها — لم يتوظف بعدُ! – هكذا تجري الأمور في هذه الأيام. – ولكني رجلٌ مثقل بالأعباء، والابن الوحيد الذي أتم دراسته مجند في الجبهة كما تعلم. فقال حسني حجازي بثقة: ابنتك متعلمة وهي تدرك ذلك كله، وماذا يقال عن العريس؟ فقال الرجل بامتعاض: على الحديدة. حال أبيه كحالي، وهو كاتب في محلٍّ تجاري! – جُنِّد؟ – مُعفًى؛ لأنه وحيد أبويه. ثم مستدركًا: بقية ذريته بنات، وإحداهن زميلة وصديقةٌ حميمة لعليات. وهنئ الأستاذ مليًّا بتدخين النارجيلة، ومضى يقول لنفسه إن النادل الطيب يعيش أيضًا في أسطورة، وإن الحقيقة خليقة بأن تصعقه، وإن أخلاقنا غير حقيقية، وهي تقوم على الريح. وقال لعم عبده: توجد فتياتٌ ذكيات، يفضلن الاقتران بالكهول الأغنياء، طلبًا للاستقرار في الحياة. فهزَّ الرجل رأسه في حيرةٍ وقال: لا أدري. – على أي حال، فإن كريمتك ليست واحدة منهن. – ربنا معها. فقال الأستاذ حسني، وهو يداري بسمةً ساخرة: آمين. فقال عم عبده بدران بحماسٍ طارئ: عليات فتاةٌ عالية الهمة، سعت إلى الرزق، حتى وهي طالبة، واكتسبت نقودًا لا بأس بها من الترجمة، فاستطاعت أن تظهر في الجامعة بالمظهر اللائق، الذي لم يكن في مقدوري توفيره لها. – فتاة عالية الهمة حقًّا! – ولكن هل ادَّخرت من النقود ما يكفي لتجهيز ولو حجرةً واحدة؟ – هذه هي المسألة! – أما هي فلا يهمها ذلك على الإطلاق. فضحك حسني حجازي، وقال: جيل يستحق التحية والإكبار. وسرحت خواطره إلى شقته الأنيقة بشارع شريف، فقال لنفسه بأن الصراع الحقيقي في هذه الحياة هو ما يقوم بين الحقائق والأساطير. وقال له عم عبده: سعادتك لم تفكر في الزواج أبدًا؟ – أبدًا. ثم أشار إليه بسبابته محذرًا، وقال: ولم أندم على ذلك قط. وتذكَّر كيف سأله صحفي في ريبورتاج عابر بالاستديو — ضمن مجموعة من العاملين في فيلم — سأله عن فلسفته في الحياة، وكيف بُهت ولم يُحِر جوابًا. ولكن أهو حقًّا بلا فلسفة؟ |
(3) ثمينةٌ جدًّا الساعات القلائل التي يقضيها إبراهيم عبده في القاهرة. تأبطت شقيقته عليات ذراعه، وهو في بذلته العسكرية ومضيا يشقَّان الطريق وسط خضمٍّ هائل من البشر تحت فيضٍ متدفقٍ من الأضواء. وكان يشبهها لدرجةٍ محسوسة، بعينَيه العسليتَين خاصة، ورغم ما بأنفه من فطسٍ خفيف، وما في شفتَيه من دسامة، وما في بنيانه من متانة. وكان يلتهم كل شيء بحواسه، ويتلقَّى سيلًا متواصلًا من المشاعر، ويدخل أحيانًا في وجودٍ غريبٍ عابرٍ بين الواقع والحلم، أو يتردد مع خواطره بين الواقع والحلم. وسألته أخته: كيف تجد الليلة صدمة الانتقال من باطن الأرض المزلزلة بالانفجارات إلى دنيا القاهرة الثملة بالصخب؟ وكانت تستعيد كلماته القديمة بالحرف، ولكنه أجاب بلا اكتراث: أصبحت عادة. – وامتعاضك العتيد؟ فأجاب بنفس اللهجة: أصبح عادة أيضًا. ثم وهو يبتسم: الموت نفسه أصبح عادةً يومية. فسألته برقَّة، وهي تتفادى من شابٍّ ينطلق كالصاروخ: كيف تريد لنا أن نعيش؟ – لا أريد تغيير نظام الكون، أريد فقط أن أشعر بأنني أُستقبَل بين أصدقائي استقبال العائد من جبهةٍ مشتعلة في سبيل الدفاع عن الوطن. فلاذت بالصمت، فمضى وهو يقول: لا أعني تكريمًا أو هتافًا. أطمع فقط في شيءٍ من الاهتمام والجدية. – ولكن لا حديث للناس إلا الحرب! – … دون المستوى المطلوب. فقال بعد تردد: لهم بعض العذر! – اللعنة .. مهما كان، مهما يكن، فالموت شيءٌ حقيقي! فضغطت على ذراعه، وقالت: لا تسمح لشيءٍ بأن يفسد عليك ساعةً طيبة .. نتناول بعض الشطائر، ثم نذهب إلى السينما. فلم يعارض، ولكنه قال: غريب أنني لم أعرف خطيبك مرزوق من قبلُ! – ألا يعجبك؟ – شكله لطيف، ولكن أخته ألطف! فنظرت إليه باهتمام وهما يقفان في ظل عند مشرب قهوة على الناصية، وتساءلت: سنية؟ – أجل، أظنها صديقتكِ؟ – جدًّا، سبقتْني بعام، وهي موظفة بالإصلاح الزراعي. الظاهر أنها أعجبتك؟ فقال بيقين: جدًّا! فضحكت عليات وتساءلت: حب من أول نظرة؟ فقال ضاحكًا: أعتقد أني نلت منها مائة نظرة! – كل ذلك من وراء ظهورنا؟ – المهم … ولما سكت تساءلت: المهم؟ – أهي لائقة كزوجة؟ – ما شروط اللياقة في نظركَ؟ – نحن كما تعلمين أسرةٌ محافظة! – أعترف بأنكَ متشبع جدًّا بأبي. – تهمني الأخلاق. فلفتته إلى إعلانٍ سينمائيٍّ فاضح، يوشك أن يكون مضاجعة، وقالت محذرة: اخفض صوتك! – أنتِ نفسكِ محافظة في الناحية الأخلاقية على الأقل. – أشكر لكَ حسن ظنك! – والآن خبريني؟ فقالت بضيق: ما أعرفه عنها يشهد بأنها ممتازة. – لا أحب أن أقلق. فضحكت، ولكنها قالت بعطف: لا يجوز أن يقلق جندي لأسبابٍ تجيئه من المدينة! وانطفأت الأنوار بغتة، كأنما ماتت بسكتةٍ؛ فغرق الطريق في ظلامٍ دامس. وهللت هتافاتٌ شابة مهرجة في عبثٍ ومجون، وصرصرت آلات التنبيه بالسيارات. توترت أعصاب إبراهيم، واجتاح رأسه أصداءُ أوامرَ خاطفةٍ بالاستعداد والقبوع في المواقع، ولكن جاءه صوت عليات ناعمًا، وهي تقول: تنطفئ الأنوار كثيرًا لأسبابٍ مجهولة. فاستردَّ راحته، وقبض على يدها، فتراجع بها، حتى لامس ظهراهما جدار المشرب، وسألها: أيطول ذلك؟ – من دقيقة لساعة. وأنتَ وحظك! وسرعان ما ألِفت عيناه الظلام، فرجع يسألها: بمَ تنصحينني؟ – ننتظر حتى يعود النور. – أعني سنية! فضحكت قائلة: سنية .. تزوجها إن كنتَ تحبها. – الحب ليس المشكلة! فسألته ساخرة: بمَ نحكم عليك لو أخذنا بماضيك؟ – ليس الرجل كالمرأة! فضربت الأرض بقدمها غيظًا، ولكنها لم تنبس، فعاد يقول: لا تريدين أن تعطيني رأيًا قاطعًا! فقالت بحدة: قلتُ إنها ممتازة، فتزوجها إن كنتَ تحبها. – سأقابلها صباح الغد. فضحكت عليات وتساءلت: لماذا يطفئون الأنوار إذا كانت أمهر المؤامرات تدبر في رابعة النهار؟ |
شكراً يَ ألق
لـِ جمال هذا الانتقاء وَ التقديم دمتم بخير |
•. سلمت أناملك على الطرح المميّز:241: ويعطيك العافية على المجهود المبذول:ff1 (27): ما ننحرم من فيض عطائك وإبداعك:241: لك تحياتي وفائق شكري:ff1 (27): ولك كل الود:241: |
(4) لم يكن الجو شديد الحرارة، ولكن أشعة الشمس تدفقت حاميةً لاسعة، وترامت تحت دفقاتها حديقة الأسماك عاريةً أو شبه عارية. وكانا أول قادمَين. تمشيا بلا هدف، وإبراهيم يقول لنفسه: مثل آدم وحواء، مثل آدم وحواء قبل الخطيئة، وابتسم لخواطره وهو لا يدري، فضبطت سنية ابتسامته، وسألته بحياء: ترى ماذا يضحكك؟ فارتبك ثانيًا، ولكنه قال: لأني سعيد! وبسط راحتَيه لأشعة الشمس، وقال: يوجد مجلس تحت الجبلاية. وذهبا صوب الجبلاية تفعم أنفَيهما رائحةٌ نباتية تزفرها الأعشاب المخضلَّة برشاش الماء. وكانت متوسطة القامة، أو دون ذلك بقليل، فلم تجاوز قمة رأسها الكستنائي منكبه، ولكنها كانت متناسقة التكوين، وذات عينَين خضراوَين صافيتَين. وجلسا متجاورَين فوق أريكة من جذع النخيل. قال: حضوركِ منَّةٌ عظيمة. فقالت ببساطة: لسنا غرباء، فنحن أسرةٌ واحدة. وأضفى القبو على الجو قتامة، وجرت في ثناياه نسمةٌ رطيبة كحال الأماكن التي لا تزورها الشمس. وكانت أعينهما تكلمت كثيرًا أمس؛ فلم يشعرا في جلستهما بغربةٍ مطلقة. ولاحظ أنها تنظر إلى بذلته العسكرية بحب استطلاع، فسألها: ليس لكِ أهلٌ مجندون؟ فهزَّت رأسها بالنفي، فقال: إنها لا تمنع من التفكير في المستقبل، كأننا نعيش أبدًا! فقالت بعذوبةٍ وحرارة: الأعمار بيد الله وحده. فابتسم في تسليمٍ وارتياح. وقال لنفسه: لا يمكن اقتحام الموضوع بلا تمهيد، ولا يجوز — في ذات الوقت — أن يطول التمهيد ما دامت فرصة اللقاء لن تتجدد قبل شهرٍ كاملٍ إن وُجدت أصلًا! ولعلها حامت حول الأفكار نفسها، ولكنها وجدت مخرجًا، فقالت: الحياة هناك شاقة بلا شك؟ وامتنَّ لسماع ملاحظتها التي لا يسمعها عادة بعيدًا عن نطاق أسرته، فقال: فوق ما تتصورين! – وكيف تتحملونها؟ فقال بصدق: أصبحت أُومن بأن الإنسان يستطيع أن يعيش في الجحيم نفسها، وأن يألفها في النهاية. ثم نظر إليها باهتمامٍ وقال: ولا يمنعه ذلك من التطلع إلى النعيم والسعادة. فابتسمت، وتورَّد وجهها القمحي، وتبدَّت سعيدة، فقال لنفسه: إنها ليست طفلةً ولا ممثلة، ولكنها قوية الشخصية والأخلاق. وسألته: ترى هل تقوم الحرب من جديد؟ فقال وكأنه لم يسمع سؤالها: علمت أنكِ غير مخطوبة! – إذن، فأنت تجري عني تحريات! – لنا صديقٌ مشترك؛ عليات. – ولمَ تشغل بالكَ بما لا يهمك؟ – وهنأتني على إعجابي بكِ. – حقًّا؟ فقال بلهجةٍ ذات مغزًى: وتمنَّت لي السعادة والتوفيق! ومرَّت فترة صمت مفعمة بالرضا. واعتقد أنه اجتاز خطًّا هامًّا، وأنه اجتازه بنجاح، وأنه لم يُضع دقيقةً من وقته الغالي سدًى. وقررت هي التهرب من نظراته، فسألته: لم تجبني على سؤالي؛ هل تقوم الحرب من جديد؟ فقال وهو نشوان بعواطفه: تحدثتُ عن أشياءَ يقينيةٍ مثل إعجابي بك. – ولكنكَ لا تعرف عني شيئًا. – القلب يعرف أكثر مما يتصور العقل. فغمغمت، ولكنه لم يسمع، فسألها: ماذا تقولين؟ أنتِ لم تتكلمي بعدُ! فقالت ببساطةٍ وصراحةٍ وبنبرةٍ غير ملعثمة: أنا سعيدة! فتجلَّت في عينَيه نظرةٌ ممتنة، وتناول يدها بين يديه بحرارةٍ وقال: في المرة القادمة سنخطو خطوةً حاسمة، وحتى يجيء ذلك الوقت، سأحيا حياةً غنية وجديدة رغم كل شيء. – حفظكَ الله من كل شيء! فقال بسرور: كسبتُ قلبًا جديدًا سيشعر بنا على نحوٍ ما. وتفكرتْ فيما يعنيه، وفطن هو إلى ما تُفكِّر فيه، فقال: يخيل إليَّ أن أحدًا لا يشعر بنا سوى أهلنا! فارتبكت، ثم قالت كالمعتذرة: إنها تجربةٌ جديدة علينا، هذا هو الواقع، ولكن ماذا عما يجب أن يكون؟ ومن رأي الأستاذ حسني أنها سياسةٌ مرسومة. – من الأستاذ حسني؟ – موظفٌ كبير في قسمنا بالمصلحة. – وماذا يعني؟ – يعني أنهم لا يريدون تعبئة الشعب للحرب إلا قبيل دخول المعركة. – الحق أني لا أفهم! – ولا أنا، ولا يدعي أحد بأنه يفهم، هل ستقوم الحرب من جديد؟! – في الجبهة نؤمن بذلك. – هنا لا نكاد نصدق! – كيف ترون الأمر؟ – ممكن أن تسمع كافة المتناقضات. فضحك إبراهيم وقال: إنكم تودون أن تجدوا النصر يومًا ضمن أخبار الصحف! وضحكت. وبالضحك أفلتا من حصار القلق، فعادا إلى موعدهما تحت الجبلاية. وتبادلا نظرة اعتذار طويلةً وحنونة. |
(5) قام حسني حجازي من مجلسه فوق الكنبة الاستوديو. انطلقت قامته الطويلة وسط حجرة الجلوس كالمارد. في شقته يجد راحةً شاملة، وإحساسًا بالسيطرة على كل شيء. الدواوين والمقاعد تصلح للاضطجاع كما تصلح للجلوس. وأجهزة التسلية قائمة بالأركان وسط تهاويل الديكور. والتحف مصفوفة فوق الأرفف عارضة ألوانًا من فنون اليابان وخان الخليلي. من أعماقه يشعر بأنها توثق علاقته بالدنيا، وتدفع عنه غوائل الفناء. مضى إلى البار، فملأ كأسَين من الكوكتيل الذي يعده بيده بخبرةٍ وأناةٍ، ثم رجع إلى وسط الحجرة، فوضع كأسًا فوق ذراع فوتيل على بعد قيراط من يد سنية. ولبث واقفًا ثم حرك كأسه قائلًا: في صحتك! وأفرغ كأسه، ثم قال: لم يعد غريبًا على هذه الحجرة أن تشهد وداع الأحبة! فقالت سنية: أنت رجلٌ كريم، في الحياة والحب! فقال متظاهرًا بالاهتمام: من حسن الحظ أني حصلت أخيرًا على فيلمٍ ممتاز لا تقلُّ مدة عرضه عن ربع ساعة! فابتسمت سنية، ولكن بلا حماس. وتذكرت كيف صرخت عند رؤية المشهد الأول من أول فيلم. كان ذلك منذ سنوات، وكانت طالبة بالجامعة أو تلميذة بالثانوية. وكانت المفاجأة بالغة الإثارة والرعب. وقال بأسف: عليات انتهت، خسارةٌ فادحة! – إنها مخطوبة، وتستعد للحياة الزوجية، ماذا تتوقع؟ فقال في دعابة: لا بأس من إباحة اللهو حتى الزفاف! فرمقته بعينَيها الخضراوَين، وقالت بلهجةٍ ذات معنًى: فكرة الزواج تخلق المرأة من جديد! – كم من متزوجات … فقاطعته: هذا موضوعٌ آخر. ثم وهي تضحك: ألا تريد للحب أن يُحترَم يومًا أو بعض يوم؟! – حاولتُ إقناعها. – أهي مهمة حقًّا عندك؟ – العِشرة عندي غالية دائمًا. فضحكت ساخرةً هذه المرة وقالت: يخيل إليَّ كثيرًا أن جميع النساء اللاتي يمررن من شارع شريف أنهن ذاهبات إلى شقتك أو راجعاتٍ منها. فقهقه حسني حجازي وقال: جاحدة من تحدثها نفسها بالسخرية من هذه الشقة. – أنت ترى أنني جئت بكل احترامٍ لأودِّعها. فهتف باسمًا: حتى أنتِ يا سنية! فقالت بسرور: جاء دوري يا قيصر. – حدثني عنه أبوه، إنه جندي، أليس كذلك؟ – بلى. – أقرأ في وجهكِ الرضا. – شابٌّ لطيف وجذاب. – وهكذا قررتِ هجر العش كصديقتكِ عليات! – إني أحب من يرغب في الزواج مني! وقال لنفسه: إن المرأة مثال الحكمة، وإنها المخلوق الوحيد الذي يستحق أن يعبد، ولكنه قال لها مداعبًا: إذن فهي المصلحة! فقالت بعجلةٍ واهتمام: لقد أحببته، صدقني! – أنتِ مصدَّقة، ولكني سآسف كثيرًا لغيابك. – لن تذوق في هذه الشقة الوحدة أبدًا. – ولكنها مكان عبور ليس إلا! – إنه شعار يصلح لأي مكان. فتراجع إلى الكنبة الاستوديو ثم جلس. أغمض عينَيه قليلًا، ثم قال: زرت الجبهة أخيرًا ضمن وفد المصورين السينمائيين، والتقطتُ صورًا لبورسعيد شبه الخالية. هل سبق لكِ أن شاهدت مدينةً خالية؟ – كلا. – كالحلم المرعب! – زرتُ بورسعيد يومًا واحدًا قبل الحرب. – أما أنا فعشت فيها ثلاثة أسابيع، ونحن نصور فيلم «فتاة فلسطين» منذ أعوام، وهي تعيش وتنام كالمدن، ولكنها تصحو في أي ساعةٍ من الليل لدى وصول أي سفينة، وسرعان ما تخلق فيها الحياة بقوة وسرعة، فتدبَّ الحركة، وتشعُّ الأنوار، وترتفع الحرارة، وفي الأماسي تترامى من جنبات الميناء أغانٍ شعبية غاية في الفتنة! – ووجدتَها شبه خالية؟ – ولم تُمسَّ بسوء، بخلاف المدن الأخرى. وصمتت قليلًا، ثم ساءلت نفسها: تُرى هل تقوم الحرب من جديد؟ فهزَّ رأسه قائلًا: لن يتهيأ لنا ذلك في القريب، ولن يشجعنا أحد عليه، ولكن الصمود يوفر لنا أطيب شروط عقب هزيمة يونيو. – الجنود يريدون الحرب. – هذا طبيعي، وكذلك الجماهير، أما نحن فلا ندري ماذا نريد. وتأوه قائلًا: آه يا وطني العزيز! فقالت بمرارة: أما نحن فكفرنا بكل شيء! – أنتم أبناء الثورة، وعليكم أن تحلوا مشاكلكم معها. ثم سألها مغيرًا نبرته: كأسٌ أخرى؟ فهزَّت رأسها نفيًا، فقال: قلت إني حصلت على فيلمٍ ممتاز! فتساءلت ضاحكة: أتذكر فيلم القسيس وبائعة الخبز؟ – هذا عن المرأتَين ورجل، ثم ينقضُّ عليهم رجلٌ غريبٌ جديد! فسألته: لم لا تتزوج قبل أن يفوتك القطار؟ – ولكنه فاتني يا عزيزتي. – توجد زوجةٌ مناسبة دائمًا. – تكلمي بخير وإلا فاسكتي! فسألته بجرأة: هل تحترم حياتك؟ – لم أفكر في تقييمها بعدُ! فقالت بامتعاض: ما يؤلمني أحيانًا أنني سلمت ابتغاء شراء أشياء، وإن تكن ضرورية. فقال لها بعطف: المجتمع يقوم على الأخذ والعطاء فلا تتألمي! فضربت الأرض بقدمها الصغيرة وتساءلت: متى نرى الفيلم الجديد؟! |
(6) وخيم الهدوء الشامل على مقهى الانشراح، فلم يندَّ عنه إلا قرقرة النارجيلة المتقطعة. وكان عشماوي يتناول عشاءه — رغيفًا وطعمية — عند الباب، أما عبده بدران فجلس على مبعدةٍ يسيرة من حسني حجازي متحفزًا للحديث أو لتقديم أي خدمة. وتساءل حسني حجازي في نفسه: كيف يواجه رجل مثل عبده بدران أعباء الحياة الفاحشة الغلاء بأسرته الكبيرة؟ كيف تتوازن ميزانيته المحدودة، ولو اقتصر الطعام على الخبز، والكساء على مخلفات سوق الكانتو، والمسكن على بدروم؟ وأولاده مع ذلك تلاميذ في المدارس، واثنان منهم — إبراهيم وعليات — أتمَّا تعليمهما الجامعي، فأي معجزة تمارس في غفلةٍ من المؤمنين! وقال إن ما ينفقه في ليلةٍ يكفي لإعالة أسرة بضعة شهور، ومع ذلك فهو لا يخلو من تذمر، وإذا مرَّ شهران دون عمل في فيلمٍ طويل أو قصير تولَّاه القلق، فماذا يكمن وراء نظرة عم بدران الثقيلة الهادئة؟! وأقنعته عليات بأنها تحافظ على المظهر اللائق بفتاةٍ جامعية بفضل النقود التي تربحها من الترجمة، فصدَّق الرجل الطيب، ولم يخطر بباله أن نقوده هو ضمن النقود التي تسهم في تربية كريمته! آه .. يوم عرف عليات عرف أنها كريمة عم بدران، وداخله قلق، وشيء من مناقشة الضمير، ولكنه قتل وساوسه بعقله البارد. وقال إنه لا يؤمن بذلك كله. ولم يتزعزع احترامه لعليات. وقال: عليهم اللعنة، فهم يقبلون الضيم والظلم والاستعباد، وينقلبون أسودًا فاتكة في وجه الحب واللهو. وهمَّ أن يسأل عم عبده كيف يواجه الحياة، ولكنه سرعان ما أقلع عن فكرته، خشية أن يفسد عليه هدوء جلسة نصف الليل، أو أن يشجعه سؤاله على استجداء مساعدة، أو طلب سلفة. ولما طال صمت الأستاذ قال عم عبده بدران: تمت خطبة إبراهيم وسنية أخت مرزوق. علم بذلك في حينه، فأتحف العروس بهبةٍ ماليةٍ كما أتحف عليات من قبلُ، ولكنه قال: ليحفظ اللهُ العريسَ ويُسعد العروسَ. – ناس طيبون وعلى قدِّ حالهم مثلنا، وهي موظفة بالإصلاح الزراعي! فجاء صوت عشماوي من عند الباب قائلًا: لا تعجبني المرأة الموظفة! فقال له عم عبده بدران: جميع بنات درب الحلة تلميذات والكبار منهن موظفات. فقال العجوز بسخرية: ولو! – لو كانت لك بنتٌ لتغيَّر رأيك. فقال بفخار: أنجبتُ أربعةً كلهم ذكور! ولكن حسني حجازي يسمع لأول مرة عن أبناء عشماوي، فسأله: ماذا يعملون يا عشماوي؟ – اثنان بين الخمسين والستين في المذبح. ثم بفتور: الثالث قُتل تحت الترام، والرابع في السجن! وصمتوا دقيقةً إعرابًا عن التأثر والتأمل، ثم سأل الأستاذ حسني عم عبده: وهل يتزوج إبراهيم في أول فرصة أو يؤجل ذلك لوقت السلم؟ – هذا شأنه، أنا أتمنى أن يتزوج اليوم قبل الغد، ولكن متى تنتهي الحرب؟ – من يدري يا عم عبده! – حقًّا من يدري، إنهم يعانون معاناة الأبطال. – هذا حق. – ومع ذلك فلا يهتم بهم أحد! – كلا، ليس هذا صحيحًا، المسألة أن الناس لم يتخلصوا بعدُ من مرارة الهزيمة. وجذب حديثُ الحرب عشماوي من الخارج إلى الداخل، فجاء بهيكله الضخم، وهو يقول: ولكن الله سينصرنا في النهاية! فقال حسني حجازي: قل إن شاء الله. فقال عشماوي: كل شيء بمشيئته، لا بد أن نهزمهم وإلا فقل على الدنيا السلام. فسأله حسني: وإذا انتهى الموقف بحلٍّ سلمي؟ فهتف العجوز الأعمش: أعوذ بالله! وأراد أن يدلل على قدرة الله، فقال: ربك كبير، أتصدق أنني ضاجعت الولية ليلة أمس مرتين؟ فذُهل الأستاذ حسني وهتف: مرتين؟! – وحق كتاب الله! – عوفيت .. عوفيت يا عشماوي! – فلا تيئسوا من رحمة الله! وضحك حسني عاليًا، ونظر صوب عبده بدران، فأحنى رأسه مصدقًا! وعاد عشماوي يقول: لم حصل ما حصل؟ لأننا خسرنا الدين والأخلاق! وقال حسني لنفسه: ولكن ما الأخلاق؟ أزمتكم الحقيقية أنكم في حاجةٍ إلى أخلاقٍ جديدة! |
(7) اكتظَّت ناصية الأمريكين فلا موضع لقدم. تلاصق الشبان تحت الأضواء، وانحصر المارة بين الأجسام الحارَّة الفتية. وقلَّ الكلام أو انعدم، وحملقت الأعين وتحركت بعض السيقان بالرقص الخفيف. وثار سالكٌ بحريمه في عباب الزحام غضبًا لكرامته الشخصية فيما بدا، وصاح: اخجلوا من أنفسكم، واذهبوا إلى الجبهة إن كنتم رجالًا! ولم يخجل أحد فيما بدا أيضًا. وتساءل صوت: لم يريد أن يرسلنا إلى الجبهة قبل الأوان؟ وقال صوتٌ آخر ساخرًا: لعله يظن أنهم يرسلون النساء والكهول! وشبعت شلة من وقفتها، فانسحبت من معسكرها، ومضت إلى «جنيفا»، فتجمعوا حول بضع زجاجات من البيرة، وجعلوا يشربون ويتكلمون كما يحلو لهم، وغالبًا بلا ضابط ولا نظام، غير أن مرزوق أنور تولى مهمة ملء الأقداح وتوزيعها. – مشكلة الجنس في … قاطعه: في الجبهة مشكلة أهم. – إنما أتكلم عن المشكلات الداخلية. – دعه يتكلم، المقاطعة ممنوعة. – حدثني أحد الكبار، فقال إنه كان يوجد على أيامهم بغاءٌ رسمي. – زماننا أفضل، فالجنس فيه كالهواء والماء! – الماء لا يصل إلى الأدوار العليا. – ولكنه يصل إلى الأدوار السفلى! – ليس كالهواء والماء، فالبنات تعلَّمن الاستغلال. – إنها ضرورات العصر. – البراءة تنهزم أمام السيارة مثلًا. – توجد دائمًا فرصٌ طيبة. – كما توجد الباصات. – وحفلات الساعة الثالثة في السينما. – لا أهمية لذلك، المهم هل الله موجود؟ – ولمَ تريد أن تعرف؟ – كان شغلنا الشاغل الوحدة العربية والوحدة الأفريقية. – وما دخل ذلك في وجود الله؟ – أصبح شغلنا الشاغل متى وكيف نزيل آثار العدوان. – معي دقيقةٌ واحدة، أهو موجود؟ – كانت أيامًا مجيدة. – كانت حلمًا. – بل كانت وهمًا. – ويضيقون بوقوفنا دقائق في الناصية! – الكلاب! – إذا قدر لليهود أن يخرجوا فمن سيخرجهم غيرنا؟ – من يُقتَل كل يوم غيرنا؟ – ومن قُتل عام ١٩٥٦؟ من قُتل في اليمن؟ من قُتل عام ١٩٦٧؟ – يظن العجوز أن المحافظة على بنت نصف عارية هي كل شيء! – علينا أن نبدأ من الصفر! – أن تُزاح عن صدورنا الكوابيس. – لا أحد يريد أن يجيبني، أهو موجود؟ – طيب يا أخي، إذا حكمنا بالفوضى الضاربة في كل مكان، فلا يجوز أن يوجد! – أليس من الجائز أنه يملك ولا يحكم؟ – يكفي أن يكون المصريون من عباده لكي يملك ويحكم! – أأنت شارع في الزواج حقًّا؟ – نعم. خذ قدحك. – لماذا؟ – لأني أحب. – وما العلاقة بين هذا وذاك؟ – يجب أن نفعل شيئًا على أي حال. – بماذا نفسر تفشي الزواج المبكر بين الشبان؟ – بالفقر! – بالموت! – بنظام الحكم! – سنضطر إلى الوقوف غدًا من شدة الزحام. – أليس من الأفضل أن نهاجر بدلًا من أن نتزوج؟ – الزواج هجرةٌ داخلية. – الحق أنه يلزمنا شيء من انتهازية الأجيال السابقة. – لا غنى عنها في الزحام. – إذن فلماذا يخشى العالمُ الحربَ؟ – ليست الحرب بأفظع ما يتهدد العالم. – أيوجد ما هو أفظع؟ – الفرد غير آمن تمامًا بين أهله، والأسرة تخشى الجيران، والوطن مهدَّد من أوطانٍ شتى، والعالم يحيط به عالمٌ خفي من الكائنات الضارة، والأرض قد يخربها خلل بالمجموعة الشمسية، والمجموعة الشمسية قد تنفجر وتختفي في ثوانٍ. – أنت مجنون! – ولكن علينا أن نضحك، وألَّا نسمح لشيءٍ بأن يفسد علينا حياتنا الغالية. – آمين. – آمين. – آمين. |
(8) ارتسمت في وجه عشماوي صورةٌ غير عادية. انغرست في أساريره غضبةٌ كالحةٌ فولاذية، انداحت فوق جفاف الشيخوخة، وبروز الفكَّين، وتهدُّل اللحيَين. وعندما استُقبل الأستاذ حسني حجازي لم ينجلِ شعاعٌ واحد للبشاشة في وجهه، حتى توجَّس الأستاذ خيفةً مجهولة، فقال — وهو يتخذ مجلسه — لعم عبده بدران: خير إن شاء الله؟! وسمعه عشماوي، فأقبل نحوه، حتى وقف أمامه، وتدفَّق قائلًا: إني ألعن كل شيء، وألعن فوق كل شيء نفسي، إني ثائرٌ على ضعفي وعجزي واندحاري في صندوق القمامة بلا حول، ومَن أنا؟! أنا عشماوي الخشن، صاحب القبضة الحديدية والنبُّوت المخضَّب بالدماء، أنا من يرتجف عند ذكر اسمه الرجال، وتتوارى النساء، ويستعيذ بالله منه رجال الشرطة، أنا المجرم الجبار الفتاك الطاغية السفاك النمرود الشيطان! واختنق بأنفاسه، فقال حسني حجازي بلين ودعابة: وكيف تشكو الضعف وأنت ذلك كله؟! – إني أحكي عن الماضي، عن الماضي أحكي لا الحاضر، افهمني يا أستاذ، كنت رجل درب الحلة وحاميها، وكان الويل نصيب مَن يتعرض لأحدٍ من أهلها بسوء، بفضلي نعموا بالسلام والأمان، بفضلي بغوا على الخلق، وهم في أمنٍ من العواقب، كان اسمي قانونًا وسيفًا ونعمةً وغنًى وفقرًا، ماذا جرى يوم اعتدى نذل من القبيسي على رجلٍ من حارتنا؟ هجمتُ على الحي كالقضاء والقدر، لم أفرق بين متهم وبريء، تهاوت الضربات على رءوس المارة، حطمتُ الدكاكين، احترقتْ عربات اليد، انهمرت الأحجار على النوافذ والأبواب، واسأل عني أيام سعد، ولا تسأل عن عدد ضحاياي، وقد عُرفتُ بشارب الدماء منذ ذبحتُ إنجليزيًّا، وشربتُ دمه المسفوح، هذا هو عشماوي الخشن! فقال حسني حجازي وهو يلعنه في سره: تاريخك معروف يا عشماوي، ولكن لمَ أنت غاضب؟! ولكن العجوز لم يُجب. ورجع إلى مجلسه عند الباب، وغرق مرةً أخرى في الحزن والصمت. ونظر حسني حجازي إلى عم عبده بدران في فضول، فقال عم عبده بدران بإشفاقٍ بلغ حد الخوف: أصيب شابان من أهل درب الحلة. فقال حسني باستنكار: ظننت أن أيام الفتونة والمعارك، قد انتهت إلى غير رجعة. فقال عبده بدران بوجهٍ شاحب: أصيبا في الجبهة! فوجم حسني حجازي، ثم تفكر في كلمةٍ مناسبةٍ يقولها، ولكن عشماوي سبقه صائحًا: قصدتني جدة أحدهما مستغيثة بي كالأيام الخالية، ظنت الولية أن عشماوي ما زال كعهده القديم يُستغاث به فيُغيث! فقال حسني حجازي: إنهما بطلان يا عشماوي! فقال الرجل بحنق: أنت لم ترهما ولم ترَ العنبر. – زرتَهما في المستشفى؟ – زرتُهما، رأيت وسمعت وشعرت بعجزي، فلعنت كل شيء كما لعنتُ نفسي. فقال حسني بروحٍ عالية، وهو يقصد أولًا عم عبده بدران: هما بطلان، وهكذا الحرب في كل زمانٍ ومكان. فصاح عشماوي: إني ألعن العجز! – سليمة سليمة بإذن الله. وقال عم عبده بدران ليُبدِّد مخاوفه الشخصية بدعابة: وأنت يا عشماوي ألا تطالب دائمًا بالحرب والنصر؟ فتحوَّل غضبه إلى حزنٍ وهو يردد: الحرب والنصر، ولكني عجوز لا خير فيه! – حسبك أنك شربتَ من دم الإنجليز في شبابك! ثم نظر عبده بدران إلى الأستاذ حسني، وقال: في الثورة الأولى كنت دون السن اللازم للجهاد، واليوم أنا فوق السن المناسب للحرب، فلم أفعل شيئًا يُذكر للوطن. – ولكن ابنك في الجبهة، خبِّرني هل يؤلمك تصورك أنك لم تفعل شيئًا؟ – أحيانًا، ولكن أعباء الحياة تغرقني حتى القمة. وتذكَّر حسني أنه ذو موقفٍ مماثل، وأنه كان يحاسب نفسه في أزماتٍ تلمُّ به، وأنه كان يطفئ سعارها ببرودة العقل الخالدة، وأنه أوشك أن يقنع نفسه بأنه يفتح شقته للأفراح البريئة والخير! وسأله عبده بدران: على أي وجه سينتهي الموقف يا أستاذ؟ فضحك حسني عاليًا، وقال: السؤال الخالد! ماذا يمكن أن يقال؟ فلننتظر. – ولكن الموت لا ينتظر. – إنه سباق ونحن لا نموت وحدنا! وعند ذلك تساءل عشماوي: وهل أولاد الأغنياء يُقتلون أيضًا؟ فلم يتمالك حسني نفسه من الضحك، وقال: ولكن التجنيد لا يفرق بين غني وفقير يا عشماوي! فهز رأسه في ارتيابٍ وعاد يسأل: وهل يرسلونهم حقًّا إلى الجبهة؟ قلبي يحدثني بغير ذلك! – لا تصدق قلبك يا عشماوي. وعكف على النارجيلة. وقال لنفسه: إن جلسة الليلة خسرت هدوءها العتيد، وإن الحزن فيها امتزج بالضحك، وإن الهزيمة مُرة وعواقبها تنتقل من مركزٍ إلى مركز في المخ، ولكنها لن تُمحى، وإن جبلًا شامخًا انهار، وتبدد حلمٌ عجيب، وإن خير ما يريح به نفسه أن يترك الأمانة لحامليها. وساءل نفسه وهو ينفث الدخان من فيه وأنفه أين يجد مكانًا لا يتردد فيه ذكر الحرب؟! |
الساعة الآن 02:44 AM |
تصحيح تعريب
Powered by vBulletin® Copyright ©2016 - 2024
new notificatio by 9adq_ala7sas
User Alert System provided by
Advanced User Tagging (Lite) -
vBulletin Mods & Addons Copyright © 2024 DragonByte Technologies Ltd.
تنويه : المشاركات المطروحة تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس بالضرورة تمثل رأي أدارة آنفاس الحب