منتديات انفاس الحب

منتديات انفاس الحب (https://a-al7b.com/vb/index.php)
-   ۩۞۩ أنفاس القصص والروايات الاسلاميه ۩۞۩ (https://a-al7b.com/vb/forumdisplay.php?f=7)
-   -   قصة الخليل إبراهيم وشيء من عبرها (3) (https://a-al7b.com/vb/showthread.php?t=11483)

- آتنفسك❀ 21-12-2019 06:17 PM

قصة الخليل إبراهيم وشيء من عبرها (3)
 
[center]

قصة الخليل إبراهيم وشيءٌ من عِبَرها ( 3 )


إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102]، ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1]، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70-71]، أما بعد:



فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي رسوله محمد بن عبد الله، صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.



أيها المسلمون، تحدثنا في خطبتين سابقتين عن خليل الله إبراهيم عليه السلام، تناولنا في أولى الخطبتين الحديث عن الجانب الشخصي، وفي الخطبة الأخرى ذكرنا الجانب الدعوي من قصة هذا النبي الكريم.



واليوم بعون الله سنعيش معًا مع خليل الله إبراهيم وبنائه البيت الحرم، بعد أن استقر إبراهيم عليه السلام في الشام مع سارة وهاجر حملت هاجر بإسماعيل ثم وضعته، فأمر الله خليله عليه السلام أن يمضي بهاجر وإسماعيل رضيعًا إلى مكة المكرمة، فانطلق إلى هناك كما أمره ربه تعالى، فأنزلهما في وادٍ غير ذي زرع، وتركهما وحيدين ورجع هو إلى الشام.



عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "ثم جاء بها إبراهيم - يعني: هاجر- وبابنها إسماعيل وهي ترضعه، حتى وضعها عند البيت عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد، وليس بمكة يومئذ أحد وليس بها ماء، فوضعهما هنالك ووضع عندهما جرابًا فيه تمر وسقاء فيه ماء، ثم قفى إبراهيم منطلقًا فتبعته أم إسماعيل فقالت: يا إبراهيم، أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شيء؟! فقالت له ذلك مرارًا، وجعل لا يتلفت إليها، فقالت له: آلله الذي أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذن لا يضيعنا، ثم رجعت، فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت ثم دعا بهؤلاء الكلمات ورفع يديه فقال: ﴿ رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُون ﴾ [إبراهيم:37]"[2].



وفي هذا الموقف نرى مدى التضحيات التي قدمها إبراهيم وهاجر وابنها؛ فقد سارع الخليل عليه السلام إلى تنفيذ أمر الله بوضع زوجته ووحيده في مكان خال من الحياة والأحياء، ثم فارقهما إلى مكان بعيد.



وفي موقف هاجر الذي يشف عن اليقين بحماية الله وكفايته ما يدعو إلى الثقة بالله خصوصًا عند العمل مع الله والقيام بطاعته، فما أجمل تلك الكلمة، وما أبرد نداها في تلك البقعة القاحلة الحارة: "إذن لا يضيعنا".



عباد الله، عاد إبراهيم عليه السلام من مكة إلى الشام لمواصلة ما كلفه الله به هناك، تاركًا خلفه في أم القرى هاجر وإسماعيل، اللذين سخر الله لهما طيب العيش، وجيرانًا صالحين، فزالت عنهما بذلك الوحشة، ونزلت عليهما الطمأنينة والأنس.



وكانت لإبراهيم زيارات متكررة لإسماعيل وأمه، حتى مرت الأيام فشب إسماعيل وتزوج من جرهم وماتت أمه هاجر رحمها الله.



قال ابن عباس رضي الله عنهما - بعد أن ذكر مفارقة إبراهيم لهاجر وإسماعيل -: "وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل وتشرب من ذلك الماء، حتى إذا نفد ما في السقاء عطشت وعطش ابنها، وجعلت تنظر إليه يتلوى، أو قال: يتلبط[3]، فانطلقت كراهية أن تنظر إليه، فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها، فقامت عليه، ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدًا فلم تر أحدًا، فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها، ثم سعت سعي الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي، ثم أتت المروة فقامت عليها ونظرت هل ترى أحدًا فلم تر أحدًا، ففعلت ذلك سبع مرات، قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فذلك سعي الناس بينهما)، فلما أشرفت على المروة سمعت صوتا، فقالت: صه - تريد نفسها - ثم تسمعت، فسمعت أيضًا، فقالت: قد أسمعتَ إن كان عندك غواث، فإذا هي بالملك عند موضع زمزم، فبحث بعقبه، أو قال: بجناحه، حتى ظهر الماء، فجعلت تحوضه وتقول بيدها هكذا، وجعلت تغرف من الماء في سقائها وهو يفور بعدما تغرف، قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يرحم الله أم إسماعيل، لو تركت زمزم - أو قال: لو لم تغرف من الماء - لكانت زمزم عينًا معينًا)، قال: فشربت وأرضعت ولدها، فقال لها الملك: لا تخافوا الضيعة؛ فإن ها هنا بيت الله، يبني هذا الغلام وأبوه، وإن الله لا يضيع أهله.



وكان البيت مرتفعًا من الأرض كالرابية، تأتيه السيول، فتأخذ عن يمينه وشماله، فكانت كذلك حتى مرت بهم رُفقة مِن جُرْهم، أو أهل بيت من جرهم، مقبلين من طريق كَداء، فنزلوا في أسفل مكة فرأوا طائرًا عائفًا - يعني: يتردد على الماء ويحوم - فقالوا: إن هذا الطائر ليدور على ماء، لعهدُنا بهذا الوادي وما فيه ماء، فأرسلوا جريًا أو جريين فإذا هم بالماء، فرجعوا فأخبروهم بالماء، فأقبلوا، قال: وأم إسماعيل عند الماء، فقالوا: أتأذنين لنا أن ننزل عندك؟ فقالت: نعم، ولكن لا حق لكم في الماء، قالوا: نعم.



قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فألفى ذلك أم إسماعيل وهي تحب الإنس)، فنزلوا وأرسلوا إلى أهليهم فنزلوا معهم، حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم، وشب الغلام وتعلم العربية منهم، وأنفسَهم وأعجبهم حين شب، فلما أدرك زوجوه امرأة منهم، وماتت أم إسماعيل" [4].



وفي هذه القطعة من خبر ابن عباس من العِبر: أن على المرء أن يسعى في طلب الرزق والبحث عن أسباب العيش وإزالة الآلام والمكاره ولا ينتظر في مكانه، حتى ينزل عليه رزقه ويحصل له زوال ألمه، وأن من سبق إلى مباح كان أولى به، وفي الخبر بيان شهامة هؤلاء الجرهميين الذين لم يتعدوا على هاجر ورضيعها، ويسلبوهما حقهما، بل كانوا جيرانًا صالحين لهما، ومن هذا نتعلم حسن معاملة الضعفاء وخاصة النساء.



أيها الإخوة الفضلاء، فلما بلغ إسماعيل مبلغ الرجال حان الوقت لتنفيذ المهمة العظيمة التي سيقوم بها مع أبيه الخليل، ألا وهي بناء البيت الحرام، فقد رجع إبراهيم إلى مكة وأخبر إسماعيل بهذه المهمة المشتركة، فوافقه عليها.



قال ابن عباس رضي الله عنهما: "ثم جاء بعد ذلك - يعني إبراهيم - وإسماعيل يبري نبلًا له تحت دوحة قريبًا من زمزم، فلما رآه قام إليه، فصنعا كما يصنع الوالد بالولد والولد بالوالد، ثم قال: إن الله أمرني بأمر، قال: فاصنع ما أمر ربك، قال: وتعينني؟ قال: وأعينك، قال: فإن الله أمرني أن أبني ها هنا بيتًا، وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها، قال: فعند ذلك رفعا القواعد من البيت، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني، حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر، فوضعه له فقام عليه وهو يبني وإسماعيل يناوله الحجارة وهما يقولان: ﴿ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [البقرة: 127]، قال: فجعلا يبنيان حتى يدورا حول البيت وهما يقولان: ﴿ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾"[5].



قال الله تعالى: ﴿ وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ * وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [البقرة: 125-129].



وفي هذه الآيات الكريمة وخبر ابن عباس: بيان عظم منزلة الكعبة المشرفة؛ حيث صارت قبلة للناس يأتون إليها لعبادة الله تعالى وإدراك الأمان، وأضحت رمزًا لتوحيد الله تعالى، فلا ينبغي أن تكون مكانًا للإشراك به، غير أن الناس في الجاهلية حينما ضلوا عن التوحيد أدخلوا الأصنام إلى الكعبة، فلما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، طهَّرها من تلك الأصنام، وأزالها عنها إلى الأبد، وجعل يقرأ في تلك اللحظة التاريخية قوله تعالى: ﴿ وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا ﴾ [الإسراء: 81].



عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى الصور في البيت لم يدخل حتى أمر بها فمحيت، ورأى إبراهيمَ وإسماعيل عليهما السلام بأيديهما الأزلام، فقال: (قاتلهم الله - يعني المشركين - والله ما استقسما بالأزلام قط)[6].



وفيها أيضًا: يتجلى برُّ إسماعيل عليه السلام بأبيه، فيدعو ذلك كل ابن أن يكون بارًّا بأبيه وعونًا له في الخير.



وفيها كذلك أن المؤمن إذا عمل صالحًا، فعليه أن يخلص لله فيه، وأن يدعو الله أن يقبله منه، وألا يكون واثقًا أن ذلك العمل الذي قدمه قد تم قبوله منه، فإبراهيم وإسماعيل عملا هذا العمل الكبير ومع ذلك تضرَّعا إلى الله أن يبقله منهما.



وفي بناء البيت منقبة عظيمة لإبراهيم وأسرته، حتى لقد أضيفت هذه الأسرة الكريمة إلى البيت في قوله تعالى: ﴿ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ ﴾ [هود: 73].



ولقد ظل ذكر إبراهيم وإسماعيل وهاجر حاضرًا في أماكن وشعائر مرتبطة بالكعبة وأداء منسكي الحج والعمرة فيها، قال تعالى: ﴿ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ﴾ [آل عمران: 96-97].



أيها المسلمون، وبعد أن أتم إبراهيم عليه السلام بناء البيت أمره الله تعالى أن ينادي الناس ليحجوا بيته العتيق، ويأتوا إليه من كل فج عميق؛ ليقيموا فيه شعائر هذا النسك، ويوحدوا الله ويعظموا حرماته، ويتقربوا إليه بذبح الهدايا ابتغاء وجهه، قال تعالى: ﴿ وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ * ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ * ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ ﴾ [الحج: 26-30].



وقد روِي أن إبراهيم عليه السلام بعد هذا التكليف من الله تعالى قال: "يا رب، وكيف أبلغ الناس وصوتي لا ينفذهم؟ فقيل: نادِ وعلينا البلاغ، فقام على مقامه، وقيل: على الحجر، وقيل: على الصفا، وقيل: على أبي قُبَيس، وقال: يا أيها الناس، إن ربكم قد اتخذ بيتًا فحجوه، فيقال: إن الجبال تواضعت حتى بلغ الصوت أرجاء الأرض، وأسمَعَ مَن في الأرحام والأصلاب، وأجابه كل شيء سمعه من حَجَر ومَدَر وشجر، ومن كتب الله أنه يحج إلى يوم القيامة: (لبيك اللهم لبيك)[7].



نسأل الله تعالى أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.



الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على النبي الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

أيها المسلمون، إن المتأمل في قصة بناء إبراهيم الخليل بيتَ الله الحرام يلاحظ أمرًا جديرًا بأن يلفت عناية المتأمل؛ ليقف عنده يسبر خبره، ويستلهم عِبره، هذا الأمر هو كثرة دعاء الخليل مع ابنه إسماعيل، وهما يبنيان الكعبة، وكثرة دعوات إبراهيم عقب بنائه البيت، وهذا يعلِّمنا درسًا عظيمًا في التقرب إلى الله تعالى بأي طاعة من الطاعات، هذا الدرس هو لزوم كثرة الدعاء أثناء العبادة وعقبها.



فما الدعوات التي دعا بها إبراهيم وإسماعيل أثناء بناء البيت، وما الدعوات التي دعا بها إبراهيم بعد الفراغ من البناء؟

قال الله تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ * وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [البقرة: 126-129].



فقد دعا إبراهيم وإسماعيل ثماني دعوات عند بناء الكعبة، وهي: الدعوة بجعل مكة بلدًا آمنًا، وبرزق أهلها من أصناف الثمرات، وبقبول العمل الصالح منهما، وبالثبات على الدين والانقياد لأحكامه، وببقاء دينهما في ذريتهما، وبتبصيرهما كيفية أداء مناسك الحج، وبالتجاوز عن الذنوب والتقصيرِ في هذا العمل الجليل، وبأن يبعث الله رسولًا من الأمة المسلمة من ذريتهما، وقد استجاب الله تعالى لخليله إبراهيم، فجعل مكة بلدًا آمنًا؛ كما قال تعالى: ﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ ﴾ [العنكبوت:67].



ورزق أهلها من أصناف الثمرات، فقال: ﴿ أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ﴾ [القصص:57].



وبعث من ذريته محمدًا عليه الصلاة والسلام نبيًّا ورسولًا لهذه الأمة، فقال تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ﴾ [الجمعة: 2].



وأما الدعوات التي دعا بها إبراهيم بعد بناء البيت، فقد قال تعالى عنها: ﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ * رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ * رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ * رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ ﴾ [إبراهيم: 35-41].



وهذه الدعوات ممزوجة بالتضرع والشكر، وهي ست دعوات خاصة وعامة، وهي تكرار دعوته السابقة بجعل مكة بلدًا آمنًا، والدعوة بإبعاد إبراهيم وأبنائه عن عبادة الأصنام - وإذا كان إمام الحنفاء يخشى على نفسه الشرك، فكيف غيره! والدعوة الثالثة أن تحن قلوب بعض خلقه إلى أهل البيت شوقًا وودادًا، وأن يرزقهم من أنواع الثمرات، والدعوات الرابعة والخامسة والسادسة: أن يوفقه الله وذريته للمداومة على إقامة الصلاة، وأن يتقبل منه دعاءه، وأن يغفر له ولذريته ولوالديه وللمؤمنين الذنوب يوم القيامة؛ قال بعض أهل العلم في سبب استغفاره لوالديه: "إنما قال ذلك أن يتبيَّن له أنهما من أصحاب الجحيم، وقيل: إن أمه أسلمت فدعا لها، وقيل: أراد بوالديه آدم وحواء"[8]، والله أعلم.



فيا أيها المسلمون، ألا فلنقتدِ بخليل الرحمن إبراهيم عليه السلام في الانقياد الكامل لشرع الله، والتضحيات العظيمة من أجل دينه، والثقة الكبيرة بالله، خصوصًا إذا كنا في عمل من أجله، ولنتأسَّ به في بر الوالدين، وإخلاص العمل الصالح، وهضم النفس عند القيام بالأعمال الصالحة.



ولنقتدِ به عليه السلام في كثرة الدعاء بصلاح حال المكان الذي نعيش فيه - أمنًا وغذاءً - وفي الدعاء بقبول العمل الصالح، والثبات على دين الله، ومعرفة أحكامه وآدابه.



ولنتأسَّ به عليه السلام في الدعاء بالبعد عن الشرك ووسائله، والدعاء للنفس والذرية بالاستمرار على طاعة الله، وغفران الذنوب، وقبول الدعاء.



ولنقتدِ به - عليه الصلاة والسلام - في الدعاء للآخرين بخيري الدنيا والآخرة، ابتداءً من الدعاء للوالدين والأولاد، ثم الدعاء لسائر المؤمنين.



فنسأل الله تعالى أن يجعلَنا من المؤمنين الثابتين على دينه، المضحِّين من أجْله، الواثقين به، كما نسأله جل وعلا لنا ولوالدينا ولإخواننا المؤمنين أن يعطينا وإياهم خيرًا مما نرجو، وأن يؤمِّننا شرَّ ما نخاف، وأن يغفر لنا ولهم جميعًا ذنوبنا يوم يقوم الحساب.



هذا وصلُّوا وسلِّمُوا على النبي المختار.


[1] ألقيت في مسجد ابن الأمير الصنعاني في: 1/ 12/ 1440ه، 2/ 8/ 2019م.

[2] رواه البخاري.

[3] يعني: يتمرغ ويضرب بنفسه الأرض، وقيل: يحرِّك لسانه وشفتيه كأنه يموت.

[4] رواه البخاري.

[5] رواه البخاري.

[6] رواه البخاري.

[7] تفسير ابن كثير (5/ 414).

[8] تفسير الخازن (4/ 50).







- مِيعآد. 21-12-2019 06:26 PM

-


أبدآعٌك رَبيعٌ فاتِنْ ..
أروتني معرفتٌك حد الإكتفاء
لقلبك بياض لا ينتهي ~

أبو محمد 23-12-2019 06:49 PM

جزاكم الله خير الجزاء على الموضوع القيم
وجعل ذلك في موازين حسناتكِم
بوركت جهودكم

الــوافــي 23-12-2019 10:19 PM

جزاك الله خير
طرح رآقي گ روحـگ
لآعدمنا جمآل ذآئقتگ
وبآنتظار جديد آبداعكگ دائمآ
ودي لك

شيخة الجنوب 23-12-2019 10:44 PM

جزاك الله خير واثابك

أسير الشوق 25-12-2019 11:56 AM

بورك فيكِ
وجزاكِ الله كل خير
وأنار قلبكِ وطريقكِ بنور الهداية والإيمان
طرحتِ فأبدعتِ كتب الله لكِ أجر هذا الطرح
دمتِ في حفظ الله ورعايته

ʂąɱąя 25-12-2019 10:44 PM

بارك الله فيك على الموضوع القيم
والمميز وفي انتظار جديدك الأروع
والمميز لك مني أجمل التحيات
وكل التوفيق لك يا رب

صدى الشوق 26-12-2019 07:59 PM

تسلم على الموضوع

جزاك الله خيرا
وجعلة فى ميزان حسناتك

روح 28-12-2019 11:25 PM

متصفح ا نيق ورآقي بمحتوآه
سلمت يدآك ع الطرح
بـ نتظـآر آلمزيد من هذا آلفيـض الراآقي
لك كل الود والاحترام

غريب الشوق 30-12-2019 07:52 AM

طرح في غاية الروعة بارك الله فيك
جزآآك الله خيـــر على الطرح القيم
وجعله الله في ميزآآن حسنآآتك
وان يرزقك الفردووس الاعلى من الجنه
الله لايحرمنآآآ من جديــدك
تحيــآآتي
دمت بود


الساعة الآن 07:37 AM

تصحيح تعريب Powered by vBulletin® Copyright ©2016 - 2024 
new notificatio by 9adq_ala7sas
User Alert System provided by Advanced User Tagging (Lite) - vBulletin Mods & Addons Copyright © 2024 DragonByte Technologies Ltd.
تنويه : المشاركات المطروحة تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس بالضرورة تمثل رأي أدارة آنفاس الحب

Security team

This Forum used Arshfny Mod by islam servant