الموضوع: الصبرُ ضياء
عرض مشاركة واحدة
#1  
قديم 16-12-2021
غيمہّ فرٌح متواجد حالياً
Saudi Arabia    
آوسمتي
لوني المفضل Azure
 إنتسابي ♡ » 420
 آشراقتي ♡ » Jan 2020
 آخر حضور » منذ 17 ساعات (11:00 AM)
موآضيعي » 7557
آبدآعاتي » 512,014
دولتي الحبيبه » دولتي الحبيبه Saudi Arabia
جنسي  »  Female
 حالتي الآن »
آلقسم آلمفضل  » الآسلامي♡
آلعمر  » ❤
الحآلة آلآجتمآعية  » » ❤
الاعجابات المتلقاة » 20838
الاعجابات المُرسلة » 13279
 التقييم » غيمہّ فرٌح has a reputation beyond reputeغيمہّ فرٌح has a reputation beyond reputeغيمہّ فرٌح has a reputation beyond reputeغيمہّ فرٌح has a reputation beyond reputeغيمہّ فرٌح has a reputation beyond reputeغيمہّ فرٌح has a reputation beyond reputeغيمہّ فرٌح has a reputation beyond reputeغيمہّ فرٌح has a reputation beyond reputeغيمہّ فرٌح has a reputation beyond reputeغيمہّ فرٌح has a reputation beyond reputeغيمہّ فرٌح has a reputation beyond repute
مُتنفسي هنا » مُتنفسي هنا
مَزآجِي  »  
مشروبك   7up
قناتك abudhabi
اشجع valencia
بيانات اضافيه [ + ]
شكراً: 11,998
تم شكره 14,365 مرة في 7,778 مشاركة
Q54 الصبرُ ضياء






اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ كُلُّهُ، اللَّهُمَّ لاَ قَابِضَ لِمَا بَسَطْتَ، وَلاَ بَاسِطَ لِمَا قَبَضْتَ، وَلاَ هَادِيَ لِمَنْ أَضْلَلْتَ، وَلاَ مُضِلَّ لِمَنْ هَدَيْتَ، وَلاَ مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلاَ مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلاَ مُقَرِّبَ لِمَا بَاعَدْتَ، وَلاَ مُبَاعِدَ لِمَا قَرَّبْتَ.

وأشهد أن لا إله إلا الله، لا يَكشفُ الضُّرَ سِواهْ، ولا يَدْعُو المضطَرُّ إِلاَّ إِيَّاهْ، نَعُوذُ مِنْ سَخَطِهِ بِرِضَاهْ، وَنُنْزِلُ فَقرَنا بِغِناهْ، وَنَستغفِرُهُ وَمن يَغفرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ الله.
اللهُ يَا أَعْذَبَ الأَلْفَاظِ فِي لُغَتِي اللهُ روحِي
وَيَا أَجَلَّ حُرُوفٍ فِي مَعَانِيهَا
طُمُوحِي رَاحَتِي سَكَنِي
لَا أَجْتَنِي الأُنْسَ إِلَّا مِنْ مَغَانِيهَا
اللهُ شَهْد الهَوَىَ والوُدُّ لَيْسَ لَهَا
فِي مُهْجَةِ المُتَّقِي شَيْءٌ يُسَاوِيهَا
اللهُ حُبِّي وَسُلْوَانِي وَمَا فَتِئَتْ
رُوحِي مَدَىَ العُمْرِ فِي شَوْقٍ تُغَنِّيهَا
اللهُ إِنْ جَاءَتِ الدُّنْيَا بضَائِقَةٍ
فَالْجَأْ إِلَيْهَا فَفِيهَا مَا يُجَلّيهَا


وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ، وخيرتُهُ من خلقهِ، وأمينُهُ على وحيهِ:
يا نبيَّ الهدى ويا خير صوتٍ
حين يتلى متيمًّا للحداةِ
يا محبًّا تَعلم الحب منه
ثم آتى ثماره الناضجاتِ
ما رأينا في دفتر المجد أسمى
منك حبًّا برغم كيد الوشاةِ
صغت للدهر قصة من نضالٍ
وفعالٍ أبيةٍ ذائعاتِ
وحروفٍ منسوجةٍ من ضياءٍ
ما توارى عن شاشة الذاكراتِ
لو رميتم مفاتح الأرض عندي
وأتيتم بالشمس والمقمراتِ
ليس في شرعة الهوى من نكوصٍ
وعهودٍ مأجورةٍ مشتراتِ
والأمور الصعاب تبدو لعيني
في رضا من أحبه هيناتِ
فإذا أظلم الدجى قام يدعو
ويناجي بأدمعٍ واجفاتِ
يا إلهي إن كنت راضيًا فإني
لا أبالي بما أتوا من أذاةِ


اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه، وعلى آله، وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا؛ أما بعــدُ:
عباد الله، إذا استحكمت الأزمات وتعقَّدت حبالُها، وترادفت الضوائق وطال ليلُها، وأجلبت الهموم بخيلها ورَجِلِها، وتاه الدليل في القفار، واستقت البحارُ من الركايا:
وَقَالَ السُّهَا لِلشَّمسِ أَنتِ كَسِيفَةٌ
وَقَالَ الدُّجَى لِلبَدرِ وَجهُكَ حَائِل!
وَطَاوَلَتِ الأَرضُ السَّمَاءَ سَفَاهَةً
وَفَاخَرَتِ الشُّهبَ الحَصَى وَالجَنَادِلُ


فعند ذلك؛ الصبر وحده – بإذن الله - هو الذي يشع للمسلم النورَ العاصم من التخبط، والهداية الواقية من القنوط، وتُبنى عليه الأعمال، وتعلَّق به الآمال، وتواجه به الأعباء مهما ثقُلت، يظل معه المؤمن بعيد النظر، موفور الثقة، دائم التفاؤل، بادي الثبات، لا يرتاع لغيمة تظهر في الأفق ولو تبعتها غيوم، فيظل مستمسكًا بالعروة الوثقى، ويبقى موقنًا بأن بوادر الصفو لا بد آتية، وأن من الحكمة ارتقابَها في سكون ويقين، فلا تذهله المفاجآت؛ وهو يقرأ قول الله: ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ ﴾ [محمد: 31].

وذلك على حد قول الشاعر:
عَرَفْنا اللَّيالي قَبلَ مَا نَزَلَت بِنَا
فلمَّا دَهَتْنَا لَمْ تَزِدْنَا بِهَا عِلْما!




وَلِهَذَا؛ كَانَ الصَّبْرُ مِنَ الْإِيمَانِ بِمَنْزِلَةِ الرَّأْسِ مِنَ الْجَسَدِ، وَلَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا صَبْرَ لَهُ، كَمَا أَنَّهُ لَا جَسَدَ لِمَنْ لَا رَأْسَ لَهُ.

ولكم أبدى الْقُرْآن فيه وأعادَ، وردَّد وكرَّر؛ حتى ذُكِر فِي الْقُرْآنِ فِي نَحْوِ مائةِ مرة، وأُمر به نبينا صلى الله عليه وسلم أمرًا صريحًا في الْقُرْآنِ أكثر من عشرين مرة، ولا نجد في الْقُرْآنِ عملًا ضُخِّم جزاؤه، وعُظِّم أجرُه مثلَه.

قَالَ ابن القيم: "الصبرُ نِصْفُ الْإِيمَانِ؛ فَإِنَّ الْإِيمَانَ نِصْفَانِ: نِصْفُ صَبْرٍ، وَنِصْفُ شُكْرٍ"[1].

والصَّبْرُ: حَبْسُ النَّفْسِ عَنِ الْجَزَعِ وَالتَّسَخُّطِ، وَحَبْسُ اللِّسَانِ عَنِ الشَّكْوَى، وَحَبْسُ الْجَوَارِحِ عَنِ التَّشْوِيشِ[2].

وقَالَ ذُو النُّونِ الْمِصْرِيُّ: "الصَّبْرُ: التَّبَاعُدُ مِنَ الْمُخَالَفَاتِ، وَالسُّكُونُ عِنْدَ تَجَرُّعِ غُصَصِ الْبَلِيَّة، وَإِظْهَارُ الْغِنَى مَعَ حُلُولِ الْفَقْرِ بِسَاحَاتِ الْمَعِيشَةِ"[3]، على حد قول القائل:
ما رآني الأنام إلا رأوا مني
ابتسامًا ولا يدرون ما بي
أُظهر الابتسام للناس حتى
يتمنوا لو أنهم في ثيابي


وَقِيلَ: "الصَّبْرُ أَنْ تَرْضَى بِتَلَفِ نَفْسِكَ فِي رِضَا مَنْ تُحِبُّهُ"[4]؛ كَمَا قِيلَ:
سَأَصْبِرُ كَيْ تَرْضَى وَأَتْلَفَ حَسْرَةً
وَحَسَبِيَ أَنْ تَرْضَى وَيُتْلِفَنِي صَبْرِي




وَقد قِيلَ: "تَجَرَّعِ الصَّبْرَ، فَإِنْ قَتَلَكَ قَتَلَكَ شَهِيدًا، وَإِنْ أَحْيَاكَ أَحْيَاكَ عَزِيزًا"[5]، وَفِي شعب الإيمان: ((سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْإِيمَانِ؟ فَقَالَ: الصَّبْرُ، وَالسَّمَاحَة))[6].

عباد الله، الصبرُ جواد لا يكبو، وصارم لا ينبو، ونور لا يخبو، وجندي لا يهزم، وحصن لا يهدم، وحجة في البلاء، وزاد في الابتلاء، وفيه عظيمُ الجزاء: ﴿ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [الزمر: 10]، لا يوزن لهم ولا يكال، إنما يغرف لهم غرفًا بغير حساب، ((مَنْ يُرِدْ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُصِبْ مِنْهُ))[7]، ((مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ وَصَبٍ وَلاَ نَصَبٍ وَلاَ سَقَمٍ وَلاَ حزنٍ، حَتَّى الْهَمِّ يُهَمُّهُ - إِلاَّ كُفِّرَ بِهِ مِنْ سَيِّئَاتِهِ))[8]، ﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ﴾ [آل عمران: 142].

إنَّ الصبر من عناصر الرُّجولة الناضجةِ والبطولةِ الفارعة، فإنَّ أثقالَ الحياة لا يطيقها المهازيل والعجزة، ولا ينهض برسالتها، ولا ينقلها من طور إلى طور إلا العمالقة الصابرون، ومن ثم؛ كان نصيبُ القادة من العناء والبلاء مكافئًا لما أُوتوا من مواهب، ولما أدُّوا من أعمال.

وسنة العظمة والاعتداد هي التي أوحتْ لقائد أمريكي كبير أن يقول: لا تسألِ الله أن يخفِّف حِملَك، ولكن اسأل الله أن يقوِّيَ ظهرك[9].

إن خفة الحمل، وفراغَ اليد، وقلة المبالاة صفات قد يظفر الأطفال منها بقسط كبير، لكن مشاغل العيش، ومرارة الكفاح، واستدامة السعي، هي أخلاق الجاهدين البنَّائين في الحياة.

ومن هنا؛ كرَّم الإسلام المنتصبين لأعراض الحياة، وواسى المجدِّين مواساةً تُطَمئن بالهم وتخفف آلامهم: ((مَثَلُ الْمُؤْمِنِ كَمَثَلِ الْخَامَةِ مِنَ الزَّرْعِ، تُفِيئُهَا الرِّيحُ، تَصْرَعُهَا مَرَّةً وَتَعْدِلُهَا أُخْرَى، حَتَّى تَهِيجَ...))[10].

فالمؤمن السارب في الحياة هدفٌ لمشاكلها الجمة، أما العاجز الهارب من المسؤولية، فماذا يصيبه؟! وذاك سرُّ قوله صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ يُرِدْ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا، يُصِبْ مِنْهُ))[11]، وقوله: ((عِظَمُ الْجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ الْبَلَاءِ، وَإِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلَاهُمْ، فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السُّخْطُ))[12].

فالمتعرض لآلام الحياة - يدافعها وتدافعه - أرفعُ درجاتٍ عند الله من المنهزم القابع بعيدًا، لا يخشى شيئًا ولا يخشاه شيء، وما ادَّخره الله لأولئك العانين الصابرين يفوق ما ادَّخره لضروب العبادات الأخرى من ثواب جزيل: ((يَوَدُّ أَهْلُ الْعَافِيَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، حِينَ يُعْطَى أَهْلُ الْبَلَاءِ الثَّوَابَ، لَوْ أَنَّ جُلُودَهُمْ كَانَتْ قُرِضَتْ فِي الدُّنْيَا بِالْمَقَارِيضِ))[13].

عباد الله، إنَّ الصبر عصمة للإيمان وللنفس وللمجتمع، بل وللأمة كلِّها، وعندما تستقرئ الأمر به والخُبْر عنه؛ تجد أنه جماعُ الفضائلِ كلِّها، وأساسُها وأُسُّها.

وهذه نفس نبينا صلى الله عليه وسلم في تجردها وانقطاعها، في ثباتها وصلابتها، في صفائها وشفافيتها تحتاج إلى التوجيه بالصبر: ﴿ فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا ﴾ [المعارج: 5]، ﴿ وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا ﴾ [المزمل: 10]، ﴿ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ ﴾ [الروم: 60]، ﴿ وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ ﴾ [يونس: 109]، ﴿ وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ ﴾ [المدثر: 7].

فالعز كل العز ينال بالصبر والتصبر والتجلد.

قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا ﴾ [السجدة: 24]؛ قَالَ: "أَخَذُوا بِرَأْسِ الْأَمْرِ فَجَعَلَهُمْ رُؤَسَاء"[14].
الصَّبْرُ مِثْلُ اسْمِهِ مُرٌّ مَذَاقَتُهُ
لَكِنْ عَوَاقِبَهُ أَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ




فالصَّبْرُ دأبُ أَهْل الْعَزَائِمِ: ﴿ وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ﴾ [الشورى: 43].
عَلَى قَدْرِ أَهْلِ الْعَزْمِ تَأْتِي الْعَزَائِمُ
وَتَأْتِي عَلَى قَدْرِ الْكَرِيمِ الْكَرَائِمُ
وَيَكْبُرُ فِي عَيْنِ الصَّغِيرِ صَغِيرُهَ
وَتَصْغُرُ فِي عَيْنِ الْعَظِيمِ الْعَظَائِمُ


وَلِهَذَا؛ وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى بِالصَّبْرِ خَاصَّةَ أَوْلِيَائِهِ وَأَحْبَابِهِ؛ فَقَالَ عَنْ حَبِيبِهِ أَيُّوبَ: ﴿ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا ﴾ [ص: 44]، ثُمَّ أَثْنَى عَلَيْهِ فَقَالَ: ﴿ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ﴾ [ص: 44].

ولذا جاء الْأَمْرُ بِهِ صريحًا فِي الْقُرْآنِ: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ﴾ [البقرة: 153]، ﴿ وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ﴾ [البقرة: 45]، ﴿ اصْبِرُوا وَصَابِرُوا ﴾ [آل عمران: 200].

كما جاء النَّهْيُ عَنْ ضِدِّهِ كقوله تعالى: ﴿ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ ﴾ [محمد: 33]؛ فَإِنَّ إِبْطَالَهَا تَرْكُ الصَّبْرِ عَلَى إِتْمَامِهَا، وقوله: ﴿ وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا ﴾ [آل عمران: 139]؛ فَإِنَّ الْوَهْنَ مِنْ عَدَمِ الصَّبْرِ[15].

الصبر خَيْرٌ كُلُّهُ؛ قال تعالى: ﴿ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ ﴾ [النحل: 126]، ﴿ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ ﴾ [النساء: 25]، وقال صلى الله عليه وسلم: ((وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنَ الصَّبر))[16].

وأثنى الله عَلَى أَهْلِهِ: ﴿ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 177].

وأوجب مَحَبَّتَهُ ومَعِيَّتِهِ سُبْحَانَهُ للصابرين؛ فقال: ﴿ وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ﴾[آل عمران: 149]، ﴿ واصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [الأنفال: 46]؛ قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الدَّقَّاقُ: "فَازَ الصَّابِرُونَ بِعِزِّ الدَّارَيْنِ؛ لِأَنَّهُمْ نَالُوا مِنَ اللَّهِ مَعِيَّتَهُ؛ فَإِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ"[17].

﴿ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [النحل: 96].

بل إن الْجَزَاءَ لَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ: ﴿ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [الزمر: 10].

وحسبُك بقَوْلِهِ سبحانه: ﴿ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ﴾ [البقرة: 155].

وقوله: ﴿ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ ﴾ [القصص: 80].

إنَّ الْفَوْزَ بالْمَطْلُوبَ الْمَحْبُوبَ، وَالنَّجَاةَ مِنَ الْمَكْرُوهِ الْمَرْهُوبِ، وَدُخُولَ الْجَنَّةِ، إِنَّمَا يكون بِالصَّبْرِ: ﴿ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ ﴾ [الرعد: 24].

والصَّبْرُ يُورِثُ صَاحِبَهُ دَرَجَةَ الْإِمَامَةِ؛ فبِالصَّبْرِ وَالْيَقِينِ تُنَالُ الْإِمَامَةُ فِي الدِّينِ؛ قال تَعَالَى: ﴿ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ[السجدة: 24].

وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "خَيْرُ عَيْشٍ أَدْرَكْنَاهُ بِالصَّبْرِ"[18].

وَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ ضِيَاءٌ، وَقَال: ((مَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ))[19]، وقال: ((وَاعْلَمْ أَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ))[20]، وَأَمَرَ الْأَنْصَارَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ بِأَنْ يَصْبِرُوا عَلَى الْأَثَرَةِ الَّتِي يَلْقَوْنَهَا بَعْدَهُ، حَتَّى يَلْقَوْهُ عَلَى الْحَوْض، وَأَمَرَ عِنْدَ مُلَاقَاةِ الْعَدُوِّ بِالصَّبْرِ، وَأَمَرَ بِالصَّبْرِ عِنْدَ الْمُصِيبَة، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ إِنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى، وَأَمَرَ صلى الله عليه وسلم الْمُصَابَ بِأَنْفَعِ الْأُمُورِ لَهُ، وَهُوَ الصَّبْرُ وَالِاحْتِسَابُ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ يُخَفِّفُ مُصِيبَتَهُ، وَيُوَفِّرُ أَجْرَهُ، وَالْجَزَعُ وَالتَّسَخُّطُ وَالتَّشَكِّي يَزِيدُ فِي الْمُصِيبَةِ، وَيُذْهِبُ الْأَجْرَ[21].
وَإِذَا عَرَتْكَ بَلِيَّةٌ فَاصْبِرْ لَهَا
صَبْرَ الْكَرِيمِ فَإِنَّهُ بِكَ أَعْلَمُ
وَإِذَا شَكَوْتَ إِلَى ابْنِ آدَمَ إِنَّمَا
تَشْكُو الرَّحِيمَ إِلَى الَّذِي لَا يَرْحَمُ


((عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ))[22].

إن هذا المعنى الذي يؤسَّس هذا التأسيس، ويُكرَّسُ هذا التكريس، معنى له شأنه وضخامتُه وعظمته وشموليتُه في حياة الأمة.

لكن ابحث عن مفهومه عند فئام من المسلمين اليوم؛ لقد انحسر معنى الصبر عندهم في صورٍ محدودة، وقضايا معدودة.

فالصبر عندهم: صبر الفقير على فقره، والمريضِ على مرضه، والبائسِ على بؤسه، لقد أصبح الصبر معنًى مرتبطًا بالمقادير والمصائب والكوارث التي لا يمكن دفعها، بالنوازل اللاتي لا يسطاع لها ردًّا، أصبح الصبر في مفهوم الكثير فعلًا سلبيًّا؛ معناه: الخنوع والاستسلام، وليس فعلًا إيجابيًّا معناه: المدافعة والعمل.

إن هذا لمن المفاهيم التي ينبغي أن تصحح في وعي الأمة، وما أكثر المفاهيم التي ينبغي تصحيحُها!

إن الصبر الذي هذا شأنه في الْقُرْآنِ لا يمكن أن يكون منوطًا بهذه القضايا المعدودة والمسائل المحدودة، ولكنه معنى له شموليتُه؛ بحيث يصاحب العبد فلا يكاد ينفك عنه أبدًا.

أين الصبر على طاعة الله عز وجل: ﴿ فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ ﴾ [مريم: 65].
أين الصبر الذي استنفرنا إليه ربنا فقال: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [آل عمران: 200].

استنفرنا إليه فقال: ﴿ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [الأنفال: 46].
استنفرنا إليه فقال: ﴿ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ ﴾ [النحل: 126].
استنفرنا إليه فقال: ﴿ وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ ﴾ [آل عمران: 186].
استنفرنا إليه فقال: ﴿ وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا ﴾ [آل عمران: 120].

إن الصبر – أيها الإخوة المتحابون بجلال الله - زاد في الطريق إلى الله والدار الآخرة، ومدد في كل أمر من أمور المسلم، وعِدة في كل مرحلة من مراحل الحياة.

الصبر ليس على المصائب والنوازل والحوادث والكوارث فقط، ولكن نحتاج إلى الصبر على: شهوات النفس ورغائبها، على أطماعها ومقامعها، على حظِّها وضعفها، على عجلتها ومللها، الصبر على أخلاق الناس وطبائعهم، وجهلهم وأمزجتهم، واستعجالهم واستعدائهم، أمامنا الصبر - أيها المؤمنون المتحابون بجلال الله - على تفشي الظلم، وتنفخ الباطل، وصفاقة السفلة، ووقاحة الطغيان، وانتفاش الشر، وعربدة الهمج الرعاع، أمامنا الصبر على صولة أهل الأهواء، وترفع الوضعاء، وتصدُّر السفهاء، وتحكُّم الرقعاء، أمامنا الصبر على غلبة الكنود، وتصعير الخدود، وضراوة الباغي الجحود.

إن الصبر – أيها الأحبة - من معالم العظمة وشارات الكمال، ولذلك كان "الصبور" من أسماء الله الحسنى؛ فهو يتمهل ولا يتعجل، ويبطئ بالعقاب إن أسرع الناس بالجريمة، ويرسل أقداره لتعمل على اتساع القرون، لا على ضيق الأعمار، وفي نطاق الزمن الرحب، لا في حدود الرغبات الفائرة، والمشاعر الثائرة: ﴿ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ﴾ [الحج: 47].

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ * الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾ [العنكبوت: 58، 59].
قلت ما سمعتم، وأستغفر الله.

الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه، وسلم تسليمًا كثيرًا؛ أما بعــــد:
إن الصبر - يا أهل الإسلام - سلوك العظماء، وخلق الأنبياء، وزادُهم الذي استصحبوه في دعوتهم، وبلاغ رسالتهم، وعبادة ربهم؛ ولذا جاء نداءُ الله إلى نبيه: ﴿ فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ ﴾ [الأحقاف: 35].

تأمل صبر نوح عليه السلام وقد لبث ألف سنة إلا خمسين عامًا؛ يدعو قومه، ليلًا ونهارًا، سرًّا وجهارًا، تبشيرًا وإنذارًا؛ فلم يجد منهم إلا وقرًا في الآذان، وغشاوةً على الأبصار، وهو يكابد الدعوة قرونًا إثر قرون، فهل كان زادُه إلا الصبر؟

أم ترى إلى صبر إبراهيم عليه السلام الذي يُلقى في النار؛ فيصدع السماء بالدعاء: ﴿ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ﴾ [آل عمران: 173]، ويؤمَرُ بذبح ابنه فلا يتردد في أن يقول: ﴿ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى ﴾ [الصافات: 102]، ثم يسلمُه ويستلُّه للجبين، فهل كان زاده إلا الصبر؟

أم ترى إلى صبر موسى، الذي يجيء إلى فرعون وقد أحاط نفسه بجوٍّ من الفزع والرعب، وسفك الدماء والغطرسة والغلظة والاستعلاء؛ فيخاطبه: ﴿ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ ﴾ [الأعراف: 104، 105]، انظر إلى صبره وهو يتلقى التهديد الفرعوني لقومه: ﴿ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ ﴾ [الأعراف: 127]، فيقول لقومه: ﴿ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [الأعراف: 128].

لقد صبر موسى على جحود قومه وكنودهم، ولأوائهم وعنتهم، حتى يتذكر هذا كلَّه حبيبُك صلى الله عليه وسلم في ساعة حرجٍ وشدةٍ، فيقول: ((يَرْحَمُ اللَّهُ مُوسَى لَقَدْ أُوذِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ))[23].

أما ترى إلى صبر قرة عينك ونبراس هدايتك صلى الله عليه وسلم؛ فإن حياته صبرٌ كلُّها، وثبات كلها.
هوَ اللهُ كمَّلَ أوصافَهُ
وسَمَّاهُ بَيْنَ الوَرَى أحْمدا




إنَّ محمدًا صلى الله عليه وسلم فتح القلوبَ قبل البُلدان، والأرواحَ قبـْـلَ الأشباح، شهــِـدَ له عُـقــَـلاءُ أعدائه بذلك؛ يقول فولتير لما ذ كِـرَ عنده بعض رؤوس المَلاحِدة: "العظماءُ هباء إذا قِـيسُوا بمُحمَّـد، إنهم لا يستحِـقــُّـونَ أنْ يكونوا صابغي أحذيةٍ عند محمد، إيْ وربِّـي!".
كأحمدَ لم تكُن حَمَلَتْ جيادٌ
وما حَمَل العِتاقُ على الرِّحالِ




والذي فلق الحبَّة، وبرأ النسَمة، من بيده النواصي، وعلمه أحاط بالداني والقاصي، وستره عم المطيعَ والعاصي؛ إن صبره لا يجارى، وثباتَه لا يبارى.
صابرَ الصبرَ فاستغاث به الصبرُ
فقال الصبور: يا صبرُ صبرًا




صبر صلى الله عليه وسلم على النوائب والشدائد، وهول الدنيا، وبوائق الدهر، وتقلب الليالي والأيام.
فأُمه ماتت لست سنوات
من عمره ويا لموت الأمهات




كَفَلَه جده وضمه إليه، وقدمه على بنيه ورق عليه، مستشعرًا ألم يتمه بفراق أبويه!
وبعد عامين توفي جده
وفي أشد اليتم زاد مجده
فعمه الشقيق ضمه إليه
وكان فوق كل أحد إليه


لزمه ولم يفارقه لثلاث وأربعين، يحوطه ويذود عنه، ويغضب له وينصره، ويتجرع الحصار والآلام نصرة له، ثم:
ومات عمه وزوجه الكريم
واعتصم النبي بالله العظيم




وبعد وفاة عمه بأيام، فجع بزوجه ورفيق دربه، أولِّ من آمن به وواساه وخفف عنه.
فقَدْ قَضَتْ فِيمَا قَضَتْ عِشْرِينَا
وَبَعْدَهَا سَبْعًا مِنَ السِّنِينَا
بِنَفْسِهَا وَمَالِهَا وَالجَاهِ
رَاضِيَةً تَفْدِي رَسُولَ اللَّهِ


إنها خديجة، حمالة الحُبِّ لا حمالة الحطب، خديجة ذات العز والشرف، والدر لا يخرج إلا من صدف، فسمي ذاك العام بعام الحزن، جُمِعت عليه مصيبتان عظيمتان، إذْ فقد السند الداخلي والخارجي، لكنه لم يفقد صبره.
وكم عصفت في جانبيه فلم يبت
لها قلقًا والطود لا يتزحزح




مات بنوه كلهم في حياته سوى فاطمة، فاحتسب وصبر.
لقي ممن كان يدعوهم إلى الله ما يشيب النواصي ويهد الصياصي؛ يقول صلى الله عليه وسلم: ((لَقَدْ أُخِفْتُ فِي اللهِ وَمَا يَخَافُ أَحَدٌ، وَلَقَدْ أُوذِيتُ فِي اللهِ وَمَا يُؤْذَى أَحَدٌ))[24]، وهو الشريف في قومه صلى الله عليه وسلم وما كان وضيعًا، وهو مع ذلك صابرٌ صبرَ المستعلي، ثابت ثبات الواثق المستولي.

ناصبوه العداء وآذوه أشد الإيذاء، تناولوه بكل كبيرة، وقصدوه بكل جريرة، بالغوا في تحدِّيه وتأبِّيهِم عن قبول دعوته: لن نؤمن لك حتى تجعل الصفا ذهبًا، ﴿ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا ﴾ [الإسراء: 90]، ﴿ أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ ﴾ [الإسراء: 91]، ﴿ أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ ﴾ [الإسراء: 92]، ﴿ أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا ﴾ [الإسراء: 92]، ﴿ أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ ﴾ [الإسراء: 93]، ﴿ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ ﴾ [الإسراء: 93]، وحاله: ﴿ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا ﴾ [الإسراء: 93]، استهزؤوا به وسخروا، وهمزوا ولمزوا، وسبوا وشتموا، واتهموه بالسحر والجنون، فما انثنى ولا فتر، خنقوه بردائه، وطرحوا الشوك على طريقه، ونثروا التراب على رأسه، وأخذوا بتلابيبه حتى سقط على ركبتيه فصبر وما ضجر، أغروه بالمال والسيادة والنساء، فما التفت إلى ذلك ولا نظر، واستعملوا معه سلاح المقاطعة الاقتصادية لثلاث سنين في الشعب حتى جهد ومن معه؛ فخرج منها وانتصر، وخاب صنيعهم واندحر.
واشتد ما يلقاه من قريش
في نفسه وأهله والعيش




صَبَرَ صَبْرَ إبراهيم على نمرود في جبروته، صبر موسى على فرعون في كبريائه وعتوه، صبر عيسى على بني إسرائيل وقد أجمعوا على قتله، صبر نوح على قومه قريبًا من ألف سنة، صبر يعقوب على فقد يوسف وأخيه حتى ذهب بصرُه، صبر يوسف على كيد إخوته وسجن العزيز ومكر زوجته، صبر أيوب على الضر الذي مسه؛ فاجتمع له من دواعي الصبر ما حصل لمجموعهم، ويخاطب الصحابة الأبرار قائلًا: ((إِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامَ الصَّبْرِ للْمُتَمَسِّكِ فِيهِنَّ يَوْمَئِذٍ بِمَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ))[25].
قوةُ الإيمانِ تُحيي فاعلَمَنْ
وِرْدَ لا خوفٌ عليهم فاقرأَنْ
قلبُهُ مِن لا تخَفْ قلبٌ سليمْ
حين يمضي نحو فرعونٍ كليمْ


كان صلى الله عليه وسلم سيد الصابرين، يتلقى الخطوب والشدائد بقلب لا يخضع.
في أُحدٍ لقي صلى الله عليه وسلم بأسًا شديدًا، وهو كالجبل الأشم، شُجَّ وجهه، وجرحت شفته، ووقع في حفرة وأصيبت ركبته، وكسرت رباعيته، وهشمت البيضة على رأسه، ودخلت حلقتان من حلق المغفر في وجنته، وسال الدم على وجهه، فجعل يسلته بيده، ويصلي يومئذٍ جالسًا، ويحكي نبيًّا من الأنبياء أدماه قومه وهو يمسح الدم عن وجهه وهو يقول: ((اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ))[26]، إنه صبر من أُنزل عليه: ﴿ وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ ﴾ [النحل: 127]، ﴿ فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا ﴾ [المعارج: 5].
تسيرُ وَفقَ مرادِ اللهِ في ثقةٍ
ترعاك عينُ إلهٍ حافظٍ حكمِ
فوَّضتَ أمرَك للدَّيان مصطبرًا
بصدقِ نفسٍ وعزمٍ غير مُنْثَلمِ
ولَّى أبوك عن الدنيا ولم ترَهُ
وأنت مرتَهنٌ لا زلتَ في الرِّحمِ
وماتت الأمُّ لمَّا أن أَنِسْتَ بها
ولم تكن حين ولَّت بالغَ الحُلمِ
وماتَ جدُّك من بعدِ الولوعِ به
فكنتَ من بعدهم في ذُروةِ اليُتمِ
فجاء عمُّك حصنًا تَستكنُّ به
فاختارَه الموتُ والأعداء في الأُجُمِ
أما خديجة من أعطتْك بهجتَها
وألبستْكَ رداءَ العطفِ والكرمِ
غدتْ إلى جَنةِ الباري ورحمتهِ
وأسلمَتْكَ لجرحٍ غير مُلتَئمِ
والقلب أُفعم من حبٍّ لعائشة
ما أعظم الخطب؟ فالعرضُ الشريفُ رُمِيْ
لمَّا رُزقت بإبراهيمَ وامتلأتْ
به حياتُك بات الأمرُ كالعدمِ
ورغم تلك الرزايا والخطوب وما
رأيتَ من لوعةٍ كبرى ومن أَلَمٍ
ما كنتَ تحملُ إلا قلبَ محتسب
في عزمٍ مُتقِدٍ في وجهِ مبتسمِ
بَنَيْتَ بالصبرِ مجدًا لا يُماثله
مجدٌ وغيرُك عن نهجِ الرشادِ عمي


صبر صلى الله عليه وسلم على الجوع والفقر والحاجة صبرًا بلغ فيه الغاية، وتجاوز النهاية، وأنطق بالإفصاح والكناية، يمر عليه الهلال والهلال والهلال، ثلاثة أهلة وما أُوقدت في بيته نار، يظل أيامًا ولياليَ متتابعة طاويًا، وأهله لا يجدون عشاءً، بل يظل اليوم يلتوي من شدة الجوع، ولا يجد من الدَّقل ما يملأ به بطنه، وأكل مع صحبه ورق السَّمُر حتى قرحتْ أشداقه.

وخرج يومًا فلقي أبا بكر وعمر، فَقَالَ: ((مَا أَخْرَجَكُمَا مِنْ بُيُوتِكُمَا هَذِهِ السَّاعَةَ؟ قَالاَ: الْجُوعُ، قَالَ: وَأَنَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لأَخْرَجَنِي الَّذِي أَخْرَجَكُمَا))[27].

ولقد أتت عليه ثلاثون من بين يوم وليلة، ما له ولبلال طعام يأكله ذو كبد إلا شيء يواريه إبط بلال، وناولته فاطمة كسرة خبز، فَقَالَ: ((هَذَا أَوَّلُ طَعَامٍ أَكَلَهُ أَبُوكِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ))[28].
طَعَامُكَ الْتَّمْرُ وَالْخُبْزُ الْشَّعِيْرُ وَمَا
عَيْنَاكَ تَعْدُو إِلَى اللَّذَّاتِ وَالنِّعَمِ
تَبِيْتُ وَالْجُوْعُ يلْقَى فِيْكَ بُغيتَه
إِنْ بَاتَ غَيْرُكَ عَبْدَ الْشَّحْمِ والْتُّخَمِ

بل ((خَرَجَ صلى الله عليه وسلم مِنَ الدُّنْيَا وَلَمْ يَشْبَعْ مِنْ خُبْزِ الشَّعِيرِ))[29].
وقد عُرضت عليه مفاتيح الخزائن فأباها، واختار لنفسه ولأهل بيته عيشة الكفاف، لا تحريمًا للطيبات، ولا عجزًا عن متع الحياة، ولكنه استعلاءٌ على الشهوات، وقمعٌ للرغبات، وتحطيم للملذات.
أتته المغريات فمال عنها
وراح يهشها هش الذبابِ




شعاره: ((اللَّهُمَّ لاَ عَيْشَ إِلاَّ عَيْشُ الآخِرَهْ))[30]، ((مَا لِي وَلِلدُّنْيَا؟))[31] ودعاؤه: ((اللَّهُمَّ اجْعَلْ رِزْقَ آلِ مُحَمَّدٍ قُوتًا))[32]، ومع هذا! كان صلى الله عليه وسلم أصبر العباد، على التعبد والاجتهاد.

تجلَّى صبره في استقامته على أمر الله، ومواصلة العبادة في الحضر والسفر، والصحة والسقم، والسلم والحرب، والسر والعلن، عبادة دائبة يقوم معها بشؤون أهله، وأمور دولته، ومصالح دنياه وآخرته، مع خشوع وحسن أداء، لا يطمح بشر إلى بلوغ مثله.
يَبيتُ يُجافي جَنْبَه عن فِراشِه
إذا استَثْقَلَتْ بالمشركينَ المَضاجعُ
دمعُه من خشية الله جرى
في مُصلاه يفوق الجوهرَا


يقول عليٌّ رضي الله عنه: ((مَا كَانَ فِينَا فَارِسٌ يَوْمَ بَدْرٍ غَيْرُ الْمِقْدَادِ، وَلَقَدْ رَأَيْتُنَا وَمَا فِينَا إِلَّا نَائِمٌ إِلَّا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَحْتَ شَجَرَةٍ يُصَلِّي وَيَبْكِي حَتَّى أَصْبَحَ))[33]، إنه من أُنزل عليه: ﴿ فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ ﴾ [مريم: 65].
سَعَى فَلَمَّا ظَفِرَتْ بالْمُنَى
يَمينُهُ أَلْقَى الْعَصا واسْتَراحْ




فيا عباد الله، صبرًا على طاعة الله، وعن معصية الله، وعلى أقدار الله؛ أسوة برسول الله، وطمعًا فيما وعد به الله: ﴿ وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا ﴾ [الإنسان: 12]، ﴿ وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ ﴾ [البقرة: 155].

﴿ رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْرًا وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ ﴾ [الأعراف: 126].

اللهم أَعِنَّا ولا تُعِن علينا، وانصُرْنا ولا تَنصُر علينا، وامْكُر لنا ولا تمكر علينا، واهدنا ويسر الهدى لنا، وانصُرنا على من بغى علينا.

ربنا اجعلنا لك شكَّارين، لك ذكَّارين، لك رهَّابين، لك مِطْواعين، لك مُخْبِتين، إليك أوَّاهين مُنيبين، ربنا تقَبَّل توبتَنا، واغْسِل حَوْبَتنا، وأجِبْ دعوتَنا، وثبِّتْ حُجَّتنا، وسدِّد ألسنتَنا، واهدِ قلوبنا، واسلُلْ سَخَائِمَ صدورنا.

[1] مدارج السالكين (2/151).

[2] مدارج السالكين (2/155).

[3] مدارج السالكين (2/157).

[4] مدارج السالكين (2/158).

[5] مدارج السالكين (2/159).

[6] رواه البيهقي في شعب الإيمان، من حديث جابر رضي الله عنه (12/190)، صححه الألباني، السلسلة الصحيحة (3/438).

[7] رواه البخاري في صحيحه، من حديث سعيد بن يسار رضي الله عنه، باب ما جاء في كفارة المرض (7/115).

[8] رواه مسلم في صحيحه، من حديث أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما، باب ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض، أو حزن ... (4/1992).

[9] موسوعة الأخلاق والزهد والرقائق (1/32).

[10] رواه مسلم في صحيحه، من حديث كعب بن مالك رضي الله عنه، باب مثل المؤمن كالزرع ومثل الكافر كشجر الأرز (4/2163).

[11] رواه البخاري في صحيحه، من حديث سعيد بن يسار رضي الله عنه، باب ما جاء في كفارة المرض (7/115).

[12] رواه ابن ماجه في سننه، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، باب الصبر على البلاء (2/1338)، ورواه الترمذي في سننه (4/179)، قال الألباني: حسن صحيح، السلسلة الصحيحة (1/276).

[13] رواه الترمذي في سننه، من حديث جابر رضي الله عنه، أبواب الزهد (4/181)، حسنه الألباني، صحيح الترغيب والترهيب (3/330).

[14] مصباح التفاسير (4/172).

[15] مصباح التفاسير (3/8).

[16] رواه البخاري في صحيحه، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، باب الاستعفاف عن المسألة (2/122).

[17] عدة الصابرين، ص: 47.

[18] زاد المعاد (4/305).

[19] رواه البخاري في صحيحه، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، باب الاستعفاف عن المسألة (2/122).

[20] رواه الفريابي في القدر، من حديث عبدالله بن عباس رضي الله عنهما ص: (131)، ورواه الطبراني في الدعاء ص: (33)، وفي المعجم الكبير (11/123)، ورواه الحاكم في المستدرك (3/624).

[21] مدارج السالكين (2/154، 155).

[22] رواه مسلم في صحيحه، من حديث صهيب الرومي رضي الله عنه، باب المؤمن أمره كله خير (4/2295).

[23] رواه البخاري في صحيحه، من حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه، باب غزوة الطائف (5/159)، وفي باب من أخبر صاحبه بما يقال فيه (8/18)، وباب قول الله تعالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 103]، ومن خص أخاه بالدعاء دون نفسه (8/73).

[24] رواه أحمد في مسنده، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه (21/443)، ورواه الترمذي في السنن (4/226)، والبزار في مسنده (8/176)، صححه الألباني، صحيح الترغيب والترهيب (3/278، 279).

[25] رواه المروزي في السنة، من حديث عتبة بن غزوان رضي الله عنه، ص (14)، صححه الألباني، السلسلة الصحيحة (1/892).

[26] رواه البخاري في صحيحه، من حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه، باب حديث الغار (5/159).

[27] رواه مسلم في صحيحه، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، باب جواز استتباعه غيره إلى دار من يثق برضاه بذلك ... (3/1609).

[28] أخرجه أحمد في مسنده، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه (20/440)، قال شعيب الأرنؤوط: حديث حسن مع انقطاع، قال الهيثمي: رجاله ثقات، مجمع الزوائد (10/562)، وضعفه الألباني، ضعيف الترغيب والترهيب (2/324).

[29] رواه البخاري في صحيحه، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يأكلون (7/75).

[30] رواه البخاري في صحيحه، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، باب البيعة في الحرب ألا يفروا ... (4/50)، وفي باب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: ((أصلح الأنصار، والمهاجرة)) (5/34)، وباب لا عيش إلا عيش الآخرة (8/88)، ورواه مسلم في باب غزوة الأحزاب (3/1431).

[31] رواه البخاري في صحيحه، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، باب هدية ما يكره لبسها (3/163).

[32] رواه مسلم في صحيحه، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، باب في الكفاف والقناعة (2/730)، وفي كتاب الزهد (4/2281).

[33] رواه أحمد في مسنده، من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه حين سأله رجل (2/299)، ورواه ابن خزيمة في صحيحه (2/52)، وابن حبان (6/32)، صححه الألباني، صحيح الترغيب والترهيب (1/335).









hgwfvE qdhx hgwfvQ




hgwfvE qdhx hgwfvQ qdhx




 توقيع : غيمہّ فرٌح

سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ

رد مع اقتباس
2 أعضاء قالوا شكراً لـ غيمہّ فرٌح على المشاركة المفيدة:
 (18-12-2021),  (17-12-2021)