في منزلي تلك الليلة وقد عانيت الأمرين خلال الثلاثة الأيام الماضية من ترقبي، وها قد انتهى. طرق باب بيتي بل انتزع من مكانه، وفي ثوان قليلة كان هناك العشرات منهم
في منزلي تلك الليلة وقد عانيت الأمرين خلال الثلاثة الأيام الماضية من ترقبي، وها قد انتهى. طرق باب بيتي بل انتزع من مكانه، وفي ثوان قليلة كان هناك العشرات منهم يملؤون غرف المنزل الضيق. سمعت نحيب والدتي الصامت وحشرجة صوتها المضطرب بعدما عثروا علي، لقد وعدتني ألف مرة أنها ستبقى صامتة ثابتة لن تتحرك، لكن يبدو أن دموعها لم تخضع لسيطرتها. كانوا يحفظون مكان كل شيء ويعرفون إلى أين يتجهون بالضبط. أثاروا الفوضى رغم ذلك وحطموا المنزل عمداً، وكما قلت كانت تلك ليلة من الليالي التي لا يظهر فيها القمر إلا متأخرًا ويبدو أنه خجل من أن يكون شاهدًا على ما يحدث. وخفتت النجوم اضطرابًا وارتباكًا. سحبوني للخارج مكبلاً ورموني على الأرض، وضع أحدهم عصابة غطى بها عيني، فتحول المكان لظلام دامس. كان الصمت يعم المكان والحي أجمع، حتى صوت القطط التي كانت تنوح كل ليلة اختفى، ونباح الكلاب الضالة خفت، وبدا وكأن العالم كله غط في النوم تلك الليلة حتى لا يشهد ما حدث. أردت لهذا الصمت أن يطول، رغبت من كل قلبي ألا أسمع شيئًا بعده. اقتادوني متخبطًا في مسيري نحو السيارة -حسب ما أظن- حملت ورميت بداخلها ككيس نفايات، شعرت بمعدنها الصلب عندما ارتطم جسدي بها. على الأقل أنا وحدي هنا ولم ألقَ فوق عشرات من أجساد تشبهني. وفجأة، وسط ذاك الصمت المهيب، دوت أصوات رصاصات. ارتجف قلبي، انتظرت للحظة أن أشعر بدفء الدم المتدفق من جسدي، لكن لم أشعر بشيء! أدركت أن الرصاص لم يصبني. سمعت صراخ وبكاء والدتي. "أنا بخير"، صرخت بها لكن لم تسمعني. "يا أمي أنا ما زلت حيا". غاب صوتها وشعرت بالسيارة تتحرك، نهضت من مكاني لأعاود الصياح بأمي، لكن ضربة غير متوقعة نزلت على رأسي فطرحتني مجددًا. شعرت بألم فظيع وغبت عن الوعي.
أفقت على أصوات كلاب تنبح فوق رأسي. جسدي يرتعد من البرد مبتلاً وغارقًا بماء بارد. رائحة المكان مقرفة؛ سيل من قاذورات وعرق وبقايا بشرية. لا أرى ولا أعلم كيف انتهى بي الحال هنا. سعلت مرارًا لأتخلص من الماء العالق بحنجرتي، هل كنت أغرق؟ أم سكبوا علي الماء لأستيقظ، بدأت ذاكرتي تعود إلي تدريجيًا. ما زال صراخ أمي عالقًا في رأسي. خاطر قفز لذهني: من أصابت الرصاصة؟! إذا لم تكن موجهة علي فلمن وُجِّهت؟ لمَ صرخت والدتي حينها؟ أكان أبي أم أحد إخوتي من أصبته؟ رغم نباح الكلاب المرتفع من حولي وصياح الجنود علي، لم أنفك عن التفكير فيما حدث. في الرصاصة التي انطلقت أين استقرت؟ في جسد من؟ في قلب من؟ سحبوني على الأرض الإسمنتية، استشعرت بجسدي كل تضاريسها وشقوقها المهترئة. خدشت جلدي الرطب وانتزعته، كان ألمها لا يوصف، رغم ذلك لم تنفك التساؤلات القاتلة عن مصير الرصاصات. سمعت أصوات باب حديدي، المزلاج أولاً ثم صرير الباب المزعج. فُك قيد يدي أخيرًا ونُزعت العصابة من على عيني. كان الضوء مبهراً فلم أستطع الرؤية بداية. رُكلت ركلًا عنيفًا حتى دخلت الزنزانة. بدأت الرؤية تتضح. تأملت المكان من حولي؛ الدماء والقاذورات تغطي الجدران، الأرض ملوثة بكل شيء حتى أنك لا تعلم ما لونها الأصلي. رائحة المكان كالموت، لا أعلم كيف هي رائحة الجيف إلا أني متأكد أن رائحة المكان كالجيفة. لا أعلم كم من الوقت مر. فقدت إحساسي بالزمن في ذاك المكان المعتم الضيق القـ.ـذر عالق هناك أنا وأفكاري ومخاوفي وهواجسي. سمعت أصواتًا في الخارج، فتح الباب وانقض عدد منهم علي، وضعوا السلاح في رأسي وبدأوا بالصراخ بي حتى اشيح بوجهي تجاه الحائط. غطوا عيني وكبلوا يدي للخلف، واخذوني خارج الزنزانة. مشيت مسافات طويلة، مررت بأصوات أنين وبكاء وصراخ متعب مبحوح ونداءات رجاء. ما الذي يُرجى من هؤلاء؟ أُدخلت لمكان معتدل البرودة، الرائحة فيه أفضل. أُجلست على كرسي ونُزعت عن عيني العصابة. أمامي طاولة فضية وُضع عليها عشرات الصور. رفعت رأسي لأرى من حولي، فأتت صفعة على وجهي. أُمِرت أن لا اتلفت. هل هم خائفون من أن أرى ملامح وجوههم؟ سألوني أسئلة كثيرة لا أعرف لها جوابًا. عشرات الوجوه رأيتها في تلك الصور. لا أعرف من يكون أصحابها. وسؤالي عالق في ذهني: متى يحين وقتي لأسألهم، ما الذي حدث للرصاصات؟ استمرت أسئلتهم وضربهم، السباب والشتائم لم تنتهِ. ضربني احدهم على رأسي وفقدت الوعي. عدت للزنزانة وبقيت فيها زمنًا أجهله. سمعت الأصوات مجددًا، إنها فرصتي لأسألهم عن الرصاصات. فتح الباب بدون أي أوامر، أُلقي في الزنزانة جسد مكوّم على بعضه. لم أميز ملامحه، أغلق الباب فورًا. تأملت الزائر الجديد بتوجس، سمعت أنين خافت يصدر منه. حاولت تحريكه، لكن كان يرتفع أنينه. "أخبرني كيف أساعدك" لم يجبني وتوقفت عن سؤاله. بعد مضي وقت اختفى انينه. هل نام؟ حاولت تحريك جسده بعد نومه لكنه ظل ثابتًا، وخشيت أن يستيقظ فتركته. النوم أفضل، هذا ما حدثت نفسي به، أن ينام خير من أن يستيقظ ويشهد آلامه مجددًا. طال نوم رفيقي الذي لم أعرف شيئًا عنه وقررت أن أنام معه، فلن يجبني أحد عما حدث بالرصاصات.
مجددا صوت في الخارج، هناك اضطراب. فتح باب زنزانتي، أشحت بوجهي للحائط. حفظت الدرس، لا أريد التعرض لضرب غير ضروري، رغم ذلك صُفعت ورُكلت. ومجددًا إلى ذات الغرفة وذات الصور حتى بدأت أألفها. سألت عنها "الرصاصات؟!" جاء صمت وتوقفوا عن ضربي. "ماذا حل بالرصاص؟" لم يجب أحد. "عندما أُحضرت إلى هنا سمعت دوي رصاص، من قُتل؟" بدأ الهمس من خلفي وضحكات خافتة. صُفعت بعدها مباشرة، أُمِرت أن لا أفتح فمي إلا إن كنت سأقدم معلومة ما. "والرصاصات؟" ضربني على رأسي. "ألا تفهم ما يقال لك أيها المعتوه؟" أغمضت عيني، هذا السؤال سيفقدني صوابي أريد جوابا. كان صراخهم يرتفع بالأسئلة والشتائم وسؤال عقلي أعلى من أصواتهم. ضربة موجعة نزلت علي أفقدتني الوعي جزئيًا وسقطت أرضًا. رأيتهم يحومون حولي، بدا مشهد سقوطي معتادًا لديهم. سحبوني من قدماي حتى زنزانتي. رأيت أضواء على طول المسافة، وظلام في آخر ذاك الممر، عشرات الأبواب على الجانبين. عدت لمكاني من جديد. أفقت من غيبوبتي، ورفيقي ما زال بنفس وضعه لم يتحرك. نهضت بصعوبة، جسدي يتألم. سألته "يا أنت، هل أنت بخير؟" سخرت من سؤالي، فأي خير يمكن أن يكون في هذه الحال؟ لكنه سؤال نسبي، هل هو بخير نسبة للموت؟! لكن ألا يمكن للموت أن يكون خيرًا في هذه الحالة، مهربًا نافذًا من بؤس هذا المكان؟ حركته ولم يتحرك، بدا أن جسده بارد جدًا. هل هو ميت؟ لم أتجرأ على تحريكه أكثر، فليبقَ ساكنًا. بدأت أشعر بألم يغزو معدتي، ربما يكون الجوع فلم أعد أميز الآلام هنا. أُخذت عددًا مهولًا من المرات نحو الغرفة، رأيت ذات الصور لذات الأشخاص حتى أني أطلقت عليهم أسماء في رأسي. لابد أن يكون هذا اسمه مراد، وهذا يلائمه اسم علي، ربما يكون الآخر محمد. وذاك صاحب الابتسامة الماكرة، يبدو أنه جواد. كنت غارقًا في عالمي أفقد الوعي من الضرب وأعود للزنزانة بذات الطريقة سحبا. أتوا بالطعام أخيرًا، كان حفنة من القاذورات، لكن من شدة جوعي تناولته كله. تأملت رفيقي الساكن، أدركت في داخلي أنه تحول إلى جثة، فلم يطلبه أحد للاستجواب ولا لمرة، ولم يأتِ أحد له بالطعام وما زال في نفس وضعه. كيف لي أن أكون بهذا التبلد، جثة رجل إلى جواري وأنا أنام وأكل وأفكر في الرصاصة ولا أعبأ بهذا الإنسان. هل يجردنا السجن والبؤس من إنسانيتنا تجاه بعضنا؟ سمح لي بالذهاب للحمام مرتين منذ قدومي، تناولت الطعام مرة واحدة، واستُجوبت عددًا مهولًا لم يعد بإمكاني عده. هذا يجعلني أفترض أني هنا منذ زمن بعيد. عدت لسؤالي وأفكاري هل كان ذلك الصوت صوت رصاص؟ كم كان عددها؟ ربما كنت أتوهم. قد لا يكون حقيقة، هل كان ذاك صراخ أمي؟ ربما كانت خدعة. سمعت عن هذه الخدع التي يمارسونها لإثارة الفزع في قلوب الناس ومن يعارضهم. ربما كنت أتوهم، ربما لم تكن رصاصات. أنا لا أعرف صوت الرصاص أصلًا، لم أسمعه في حياتي من قبل. قد يكون صوت فرقعة قوية من السيارات، وذاك الصياح من أمي لأنها أدركت أني مغادر. لكن لماذا خفت صوتها فجأة؟ للحظة نسيت كيف هو وجه أمي. أحاول التذكر لكن لا أذكر. الضوء في هذه الزنزانة سيء ويؤلم عيني. الصداع يفتك برأسي، ربما تكون تلك أعراض جفاف، فأنا لم أشرب ماء منذ قدومي، أو قد تكون إصابة عميقة رجت دماغي فتسببت بهذا الألم. تأملت رفيقي الملقى هناك، قررت أن أستجمع قواي وأحركه. فعلت ذلك بعد جهد، فجسدي ممتلئ بالكدمات. لم أستطع رؤية وجهه بوضوح، الأوساخ والدم الجاف غطى ملامحه، اظنه صبي في السادسة عشرة. ما زال صغيرًا، ولم أندهش، فسجاني لا يفرق بين الأعمار هنا. سمعت الصوت، لابد أن يكون هذا استجوابًا جديدًا. نفذت استراتيجيتي هذه المرة: "سأجيبكم إن أجبتموني، ما الذي حل بالرصاصات؟" في كل الأحوال سأتلقى الضرب والإهانة، على الأقل سأستفيد وأعرف جواب سؤالي. لكن أحدًا لم يعرني اهتمامًا. هل حركتي مكشوفة؟ هل يعلمون أني لا أعرف من هؤلاء ولا أملك أي معلومة عنهم؟ إذن لماذا يبقون علي هنا؟ هذا الواقع في هذه البلاد السجن مصير الجميع، مجددًا ها أنا في زنزانتي، بدأت رائحة الجثة تفوح. حركت يدي لألمس جبينه، إنه بارد كالثلج. رغم أني كرهت الرائحة، كرهت الموت المنبعث من جسده، لكن لم أرغب في مغادرته. لذا لم أقل شيئًا، لم أعلن للسجان وفاة رفيقي وعن حاجته لقبر يُدفن فيه ولكفن يغطيه ولرجال يصلون عليه. وقفت أمامه وصليت عليه صلاة الميت بدون وضوء فلا ماء هنا. تأملت وجهه، لا أعلم كيف امتلكوا المقدرة على إيذائه بهذه الوحشية. غفوت إلى جواره، إلى جوار جثة تفوح رائحتها، إلى جوار جسد صبي ضُرب حتى الموت، إلى جوار إنسان لا يعرف عن موته أحد إلا أنا.ما هو حال والدته وإخوته؟ من المؤكد أن لا أحد يعلم بحاله. أعرف شعورهم، أنا القابع هنا أتساءل عن مصير الرصاصة.
استجوابي الأخير إلى ذات الغرفة وذات الصور، حتى كدت ألقي التحية على الوجوه في الصور: جواد وعلي وأطلب من محمد كوب ماء. سألني السجان عن أسمائهم، ويبدو أني فقدت عقلي وأجبته: "هذا علي وهذا جواد أما هذا هناك فهو محمد". ضربني ضربًا مبرحًا. "هل تكذب .. أتريد أن تعرف ماذا حل بالرصاصات يا غبي؟" اقشعر جسدي وأنصت إليه بكل جوارحي. اقترب من أذني ورائحة نتنة تفوح منه، أشد بشاعة من رائحة الجثة العالقة في زنزانتي. "ألم تتعرف على وجهه؟" شخصت عيناي. عن أي وجه يتحدث؟ "رفيق زنزانتك، ألم تتعرف عليه؟" اضطربت "أريد العودة للزنزانة الآن، أريد أن أعود الآن". ضحك هو ومن معه. هذه المرة الوحيدة التي عدت فيها واعيًا، أرادوا مني أن أرى، وأن أعي ما أراه. في لحظة دخولي زنزانتي جثوت على الجثة، على وجه الصبي. لا أعلم من يكون، لابد أنهم يتلاعبون بي . لا يشبه أخي، أنا متأكد، وإن كان يملك نفس البنية الجسدية ونفس الشعر، لكن أنا متأكد أنه ليس أخي. لا أذكر أن لأخي ملابس مشابهة ووجهه مهشم من شدة الضرب وملابسه مخضبة بدماء وأوساخ، يستحيل أن يكون أخي. لماذا أوهموني بذلك؟ هل يريد أن يشعرني أني منهزم وضعيف أم أنه يتغذى على هلعي وخوفي؟ ما زلت أتأمل جثة الصبي، يده اليمنى المشدودة إلى صدره. حركتها، كان جسده متصلبًا. فتحت كفه ورأيتها أخيرًا، تلك الندبة في كف أخي هي ذاتها.. وتلك الرصاصة، كانت قد اغتالت أخي.