03-01-2023
|
#11
|
(18)
بدا حسني حجازي جادًّا أكثر من المألوف. وقف في حجرة الجلوس ينظر باهتمامٍ وإشفاقٍ إلى منى زهران. ولم تكن تبادله النظر، عيناها السوداوان شبه مغمضتَين مستسلمة إلى مسند الفوتيل الكبير كالنائمة، تعلوها الكآبة. وقال لنفسه إنها الصديقة الوحيدة التي لم تستسلم لنزواته، والتي لا تستسلم إلا للحب. وهو يذكر كيف زارته أول مرة وهي طالبة بصحبة عليات وسنية مسوقة بحب الاستطلاع، وكيف شاهدت أفلامه الجنسية المثيرة، ولكنها لم تنزلق رغم الإثارة، فلم تهبه أكثر من الصداقة، وكفَّ هو منذ زمنٍ بعيدٍ عن مطالبتها بمزيد، قال: دعوتك لأني شعرت بأنكِ في حاجةٍ إلى صديق في محنتك.
فجرت على شفتَيها ابتسامةٌ خفيفة إعرابًا عن شكرها، فعاد يقول: دعوتك من قبلُ، ولكنك لم تلبي!
– كنت في غاية الحزن.
فمال نحوها قليلًا، وقال بحنان: على أي حال احمدي ربنا، حسن حمودة محامٍ قادر، وقد أنقذ عنقه من المشنقة!
فقالت بأسًى: ولكنه سيقضي في السجن عشر سنوات، وخسر مستقبله إلى الأبد!
– قضاء أخف من قضاء.
فقالت بعصبية: وأنا المذنبة الحقيقية!
– ماذا كان بوسعكِ أن تفعلي؟ ما فعلتِ إلا أن شكوتِ همك لشقيقك!
– لن يهوِّن قولكَ من شعوري بالإثم!
ورفع الرجل كأسًا بيده إلى فيه، ثم نظر إلى كأسٍ موضوعة على ذراع الفوتيل على كثب من يدها، كأنما يدعوها إلى الشراب، وتراجع خطوات، حتى استند إلى حافة البار، ثم قال: فكِّري في الهموم من حولنا تَهُنْ عليكِ همومنا.
– لا أظن.
فابتسم متسائلًا: مصممة على الحزن؟
– لست حزينة، إني أعيش حياتي، ولكن بلا طعم!
فهز رأسه الضخم وقال: قد يعرض لي عارض حزن، أتدرين كيف أعالجه؟ أتذكر آلاف القتلى، وما يخبئه الغد من احتمالات، وسرعان ما يهون عليَّ حزني.
فرفعت منكبيها في وجوم، ولم تنبس، فقال: وهزتني ثورة الطلبة من الأعماق، ثم تذكرت أننا قد نُدفن تحت الأنقاض في أي لحظة.
فهتفت بحدةٍ مباغتة: هناك ما هو أدهى وأمرُّ، وهو أننا نعيش في الحقيقة على التسول!
فضحك حسني عاليًا وقال: يا له من تعبيرٍ صادقٍ ومثير!
– لم ضحكت عاليًا؟
– صدقيني أنني لم أضحك ضحكةً واحدة من قلبي منذ ظ¥ يونيو.
ثم مستطردًا: هي مجرد أصوات يا عزيزتي منى.
– كيف يهنأ بعض الناس بالنوم؟
– إنهم يضعون على أعينهم نظارات التاريخ السحرية، فتتجلى لهم رؤيةٌ أخرى.
– ألا ترى تلك النظارات عشرات الألوف من الضحايا؟
– كلا، ولكنها ترى ما هو أخطر!
– أأنت جاد فيما تقول؟
– كل الجد.
– إذن فأنت راضٍ؟
– لست من صانعي التاريخ، فنظرتي رهن بضعف بصري، وهي مليئة بالشجن والعبث.
وولَّاها ظهره ليملأ الكأس من جديد، فتناولت كأسها وشربت، حتى النصف. ثم تحول نحوها قائلًا: اشربي، يلزمك ثلاث كئوس على الأقل.
فابتسمت لأول مرة وقالت: بك حنين ملحوظ إلى الوطنية، فهل قمت بواجبك؟
فصبَّ الشراب في جوفه دفعةً واحدة، ثم قال: في مثل سنِّي يكفي أن أحمل الكاميرا، وأزور الجبهة لأقوم بواجبي!
– ثم ترجع إلى بيتك السحري!
– هنا أنتهب لذاتٍ عابرةً بدافع الذعر والحزن.
– سعداء هم الكهول!
– ما أتعس البلد الذي يحسد فيه الكهول على كهولتهم!
وتبادلا نظرةً طويلة لا تخلو من عذوبة، ثم قال: دعوتك لأسليك فانظري …
فقاطعته بهدوء: الأستاذ حسن حمودة يرغب في الزواج مني!
فذُهل حسني حجازي، صمت مليًّا، ثم هتف: إنه يماثلني في السن!
فهزَّت رأسها نفيًا وقالت: إنه في الأربعين!
– أراهن على أنكِ ستوافقين!
– لم تتوهم ذلك؟
– ربما احتجاجًا على الحب الذي أعطيتِه أعز ما تملكين، ثم لم تجني منه إلا التعب.
فقالت بنبرةٍ ساخرة: سالم علي تزوج من مومس!
– لم يعد لهذه الكلمة من معنًى!
فتساءلت وهي تتنهد: أليس من المضحك أن يفعل اثنان بنفسيهما ما فعلنا وهما يتبادلان الحب؟
– اشربي كأسك وتزوجي من حسن حمودة، فلا خير في أن تبقي وحيدة لتجترِّي أحزانك حتى تقتلك!
وحدَّثها حديثًا مطولًا عن حسن حمودة، وأسرته الصعيدية العريقة، وأرضه التي صُفِّيت في الإصلاح الزراعي، ونبوغه في المحاماة، ثم سألها: هل شاهدت آخر أفلامي؟
فضحكتْ، على حين اتجه هو نحو غرفة العرض.
|
|
|
تعليمات المشاركة
|
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك
كود HTML معطلة
|
|
|
|