الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن الحلال ما أحل الله، والحرام ما حرم الله، والدين ما شرعه الله؛ وقد شرع الله العمرة إلى البيت الحرام، ولم يخصص لها وقتاً من الأوقات، بل جعلها مشروعة في جميع أيام السنة، ولكنه خص العمرة في رمضان بمزيد من الذكر؛ فعن ابن عباس-رضي الله عنهما-: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لامرأة من الأنصار يقال لها أم سنان: (ما منعك أن تكوني حججت معنا؟) قالت: ناضحان كانا لأبي فلان (زوجها) حج هو وابنه على أحدهما، وكان الآخر يسقي غلامنا، قال: (فعمرة في رمضان تقضي حجة، أو حجة معي)1. أما العمرة في غير رمضان فلم يرد في ذلك حديث صحيح، وأصح ما ورد فيه ما روي عن ابن عمر –رضي الله عنهما – أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- اعتمر في رجب، فأنكرت ذلك عائشة -رضي الله عنها– وهو يسمع فسكت2. ولكن من خلال إطلاعي- القاصر- على أقوال العلماء في حكم العمرة في رجب، وجدت أن العلماء اختلفوا في حكم ذلك على قولين: القول الأول: أنَّ العمرة في رجب مستحبة، وهذا ما ظهر من خلال كلام ابن رجب-رحمه الله-؛ فإنه قال: استحب الاعتمار في رجب عمر بن الخطاب وغيره، وكانت عائشة تفعله وابن عمر أيضاً. ونقل ابن سيرين عن السلف أنهم كانوا يفعلونه، فإنَّ أفضل الانساك أن يؤتى بالحج في سفرة، والعمرة في سفرة أخرى في غير أشهر الحج، وذلك من جملة إتمام الحج والعمرة المأمور به؛ وكذلك قاله 3 جمهور الصحابة؛ كعمر وعثمان وعلى وغيرهم4. واستدلوا كذلك بما روى البيهقي في سننه عن سعيد بن المسيب أنَّ عائشة -رضي الله عنها- كانت تعتمر في آخر ذي الحجة من الجُحفة، وتعتمر في رجب من المدينة، وتهل من ذي الحليفة5. القول الثاني: أن تخصيص شهر رجب بالعمرة لا أصل له؛ قال ابن العطار: ومما بلغني عن أهل مكة -زادها الله شرفاً- اعتياد كثيرة في رجب، وهذا مما لا أعلم له أصلاً، بل ثبت في حديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (عمرة في رمضان تعدل حجة)6.7. وذكر الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ أن العلماء أنكروا تخصيص شهر رجب بكثرة الاعتمار8. والذي يترجح-والله أعلم- أنَّ تخصيص شهر رجب بالعمرة ليس له أصل؛ لأنه ليس هناك دليل شرعي على تخصيصه بالعمرة فيه، مع ثبوت أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يعتمر في رجب قط كما تقدم. ولو كان لتخصيصه بالعمرة فضل لدل أمته عليه -وهو الحريص عليهم-كما دلهم على فضل العمرة في رمضان ونحو ذلك. وأما ما ورد أن عمر بن الخطاب استحب العمرة في رجب فلم أقف على سنده. وأمَّا ما نقله ابن سيرين عن السلف، أنهم كانوا يفعلونه فليس في ذلك دليل على تخصيصه بالعمرة؛ لأنَّه ليس قصدهم -والله أعلم- تخصيص شهر رجب بالعمرة، وإنما القصد -والله أعلم- هو الإتيان بالحج في سفرة والعمرة في سفرة أخرى، رغبة في إتمام الحج والعمرة المأمور به؛ كما وضَّح ذلك ابن رجب في معرض كلامه عما نقله ابن سيرين عن السلف. وإما ما رواه والبيهقي عن عائشة -رضي الله عنها- من أنها كانت تعتمر في ذي الحجة وفي رجب، فيمكن الجواب عنه: بأنه موقوف على عائشة، وكذلك يحتمل أن فعلها هذا جمع بين السنة في الاعتمار في أشهر الحج كما فعل النبي-صلى الله عليه وسلم- وبين فضل الإتيان بالحج في سفرة والعمرة في سفرة أخرى. ولو كان لتخصيص شهر رجب بالعمرة فضل أو مزية لذكرته -عائشة-رضي الله عنها- عندما أنكرت على ابن عمر قوله: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- اعتمر في رجب- والفضل كله في الافتداء بالنبي-صلى الله عليه وسلم-، والنبي-صلى الله عليه وسلم- لم يعتمر في رجب قط -والله أعلم-. قال أبو شامة: ولا ينبغي تخصيص العبادات بأوقات لم يخصصها بها الشرع، بل يكون جميع أفعال البر مرسلة في جميع الأزمان ليس لبعضها على بعض فضل، إلا ما فضله الشرع وخصه بنوع من العبادة، فإن كان ذلك اختص بتلك الفضيلة تلك العبادة دون غيرها؛ كصوم يوم عرفة وعاشوراء، والصلاة في جوف الليل، والعمرة في رمضان، ومن الأزمان ما جعله الشرع مفضلاً فيه جميع أعمال البر كعشر ذي الحجة، وليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، أي العمل فيها أفضل من العمل في ألف شهر، ليس فيها ليلة القدر، فمثل ذلك يكون أي عمل من أعمال البر حصل فيها، كان له الفضل على نظيره في زمن آخر. فالحاصل: أنَّ المكلف ليس له منصب التخصيص، بل ذلك إلى الشارع9.-والله أعلم-. ولكن يجب أن يعلم أننا لا نبدع ولا نحرم العمرة في رجب وفي غيره من الشهور، ولكننا نبين أنه لا ينبغي اعتقاد أن للعمرة في رمضان مزية على غيره من الشهور، وعليه فلو أن إنساناً اعتمر في رجب من غير اعتقاد مزية، ولا تقصّد للعمرة فيه؛ فلا حرج على من فعل ذلك -والله اعلم-. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. 1 – رواه البخاري ومسلم، وهذا لفظ مسلم.
2 – رواه البخاري ومسلم.
3 – أن الإتيان بالحج في سفرة والعمرة في سفرة أخرى -والله أعلم- وليس المراد استحباب العمرة في رجب
4 – يراجع: "لطائف المعارف" صـ(133- 134). مؤسسة الريان- دار ابن حزم. الطبعة الأولى(1414هـ).
5 – السنن الكبرى للبيهقي(4/344). الناشر: مكتبة دار الباز- مكة المكرمة (1414 هـ). تحقيق : محمد عبد القادر عطا.
6 – رواه البخاري ومسلم.
7 – يراجع: مساجلة العز بن عبد السلام وابن الصلاح حول صلاة الرغائب، صـ(56). وقد نقلها المحقق من نسخة مخطوطة لرسالة : حكم صوم رجب وشعبان للعطار.
8 – راجع: "مجموع فتاوى" الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ (6/131).
9 – يراجع: "الباعث على البدع والحوادث"، صـ(48). طبع ونشر مطبعة النهضة الحديثة بمكة المكرمة، الطبعة الثانية،(1401هـ).