كمشتكين بن
دانشمند ؟ ليس فناناً مُنحرفاً .. ولا رياضياً محترفاً ..ولا هو بطل لأحد أفلام المسلسلات الغربية .. أو المغامرات البوليسية !! كلا.. بل هو ( بطل الإنتصارات الأولى على الصليبيين ).
كمشتكين بن دانشمند .. اسم لامع في الأفق .. و نجم ساطع في سماء البطولة .. وقائد عسكري محنك .
هو ليس عربي !!. فنصرة الدين ليست حكراً على العرب - و إن كانوا هم أحق بها وأهلها - إن اختيار الله لنا حملُ دعوته ،وتبليغ رسالته , و نصرة دينه , والذود عن شريعته تكريمٌٌ و تفضلٌ واصطفاء . وحين لا نكون أهلاً لهذا الفضلٌ وهذا التكريم ، ولم ننهض بتكاليفه , فإن الله يستبدلنا بغيرنا , ويؤتي ملكه من يشاء ,ويمنح فضله لقومٍ يقدرون الفضل قدره { وإن تتولو يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم } محمد (38) { إلا تنفروا يعذبكم عذاباً أليماً و يستبدل قوم غيركم ولا تضروه شيئاً } التوبة (39)
(
كمشتكين بن دانشمند ) .. ليس أول مجد من أمجادنا نضيعه ،ولا أول رمز من رموزنا نجهله !؟ لقد جهلنا أو تجاهلنا شيئاً كثيراً من تاريخنا و أمجادنا . والواقع شاهد على ذلك فأكثر شبابنا اليوم مشغول بتلقف الثقافات المستوردة الهابطة !! بدلاً من أمجـادنا الرفيعة العالية .
• ذكر بن الأثير و غيره شيئاً يسيراً من أخبار القائد المسلم (كمشتكين بن دانشمند) لكن أكثر آثاره وأخباره حفظها لنا المؤرخون الغربيون عن غير قصد ، وهم يؤرخون للحملات الصليبية ( و الحق ما شهدت به الأعداء !! ) :-
- والد
كمشتكين هو(طايلو) التركماني ,وإنما لقب (دانشمند) لأنه كان معلماً لأبناء التركمان ، وكانوا يسكنون بعض المناطق في [أذربيجان و أران] .
في عام 455 هـ قدم الجيش السلجوقي المسلم بقيادة (ألب أرسلان) إلى أذربيجان ، و كان عازماً على غـزو الروم و الكرج . فالتحق به أمراء التركمان مع قبائلهم ، ومن بين هؤلاء الأمراء الأمير (دانشمند) ، فدلوا السلاجقة على طرق و مجاهل بلاد الكفار , وزادت مكانة الأمير عند السلطان (ألب أرسلان) لما رأى فيه من آثار العقل و الشجاعة والحماسة للإسلام , فعقد له لواءً وكلفه بفتح بعض البلدان هناك وولاه على بعض المناطق ، وكتب له بذلك . فظل الأمير (دانشمند) على ولايته يغزو الروم مجاهداً في سبيل الله حتى توفي سنة 477 هـ فخلفه أبنه الأكبر (كمشتكين) الذي يعتبر المؤسس الحقيقي للدولة الدانشمندية في بلاد الأنضول .
فظل ( كمشتكين ) يواصل الفتوحات ففتح (قصطمونية وجانجري) وانتزع من البيزنطيين ميناء (سينوب ) على البحر الأسود .
الحملة الصليبية الأولى
وجاءت الحملة الصليبية الأولى , واستولت على مدينة (نيقية) عاصمة سلطان سلاجقة الروم( ثلج أرسلان) وأنزلوا بالسلاجقة هزيمة أخرى غرب آسيا الصغرى بقيادة الأمير الصليبي (بوهيمند) النورماني . ثم تقدموا إلى أنطاكية وحاصروها حتى أستولوا عليها سنة 491 هـ وأنزلوا الهزيمة بجيوش المسلمين التي قدمت لنجدة إنطاكيه , وأضحى ( بوهيمند ) أميرًا على أنطاكية بتأييد وموافقة أمراء الصليبيين حيث كانت مكافأةً له على جهوده .
ثم شرع ( بوهيمند) على توسيع إمارته عن طريق العدوان على بلاد المسلمين المجاورة ، فتقدم الصليبيون نحو (حلب ) و التقو بجيش السلاجقة المسلم بقيادة ( رضوان تتش ) .. فحلّت بالمسلمين هزيمة عظيمة استباح خلالها الصليبيون معسكر المسلمين و قتلوا عددا كبيراً منهم ، وأسروا منهم قرابة الخمسمئة ، منهم بعض الأمراء ، ثم استولوا على ( كفر طاب) ، و( برج الحاضر ).
وفي ظل هذه الهزائم المتلاحقة على المسلمين يهب القائد المحنك ( كمشتكين ) لمجابهة هذا الخطر, حيث زحف بجيشه حتى حاصر (ملطيه) الخاضعة ل (جبريل الأرمني ) ، و عندما شعر الأرمني بالخطر استنجد بالقائد الصليبي (بوهيمند) الذي كان قد استولى على إنطاكية. وفعلاً توجه ( بوهيمند ) لنجدة ( جبريل الأرمني ) . ولما بلغت المعلومات إلى القائد المسلم (كمشتكين ) بهذا التحرك , أرسل جواسيسه لرصد تحركاتهم بدقة وتربص لهم في المكان المناسب .
وصل ( بوهيمند) على رأس قواته إلى قرب (ملطية) وبين التلال التي تفصل ( ملطية ) عن وادي ( امتسو) - أحد الفروع العليا لنهر الفرات - كان قد كمن فيها ( كمشتكين) و جنوده الأبطال ، فانقض عليهم في هجوم صاعق من أعالى التلال ، و طوق قوته ، و بعد قتال قصير انهارت قوات ( بوهيمند) و قتل معظم الصليبيين ، ووقع (بوهيمند) و ابن عمه (ريشارد) و غيرها من الفرسان في الأسر , وكان ذلك في شهر رمضان عام 493 هـ , ثم تقدم (كمشتكين) بعد هذه المعركة بجيشه رافعاً رؤوس القتلى من الصليبيين و حاصر ( ملطية ) .ويعتبر هذا النصر الذي حققه (كمشتكين) هو أول انتصار يحققه المسلمون على الصليبيين منذ وصول الحملة الصليبية الأولى عام 490 هـ .
ولاشك أن هذا
الانتصار رفع من الروح المعنوية لدى المسلمين بعد الهزائم المتلاحقة , مما أحدث قناعة بإمكانية إعادة الأمجاد وتحقيق انتصارات أخرى عليهم . إن أشد ما يضر بالأمم في مثل هذه الأزمان هو الوقوع في شباك الهزيمة النفسية .
• أما الصليبيون في الشرق الاسلامي ، فقد شعروا بالخطر من نقص القوات البشرية ، وحاجتهم إلى إمدادات عسكرية , فأرسلوا إلى أوروبا يستغيثون و يطلبون المدد .
وضجت أوربا لنداء البابا ( باسكال الثاني ) الذي بعث برسالة إلى رجال الدين الفرنسيين ، و نشر دعاته في أوروبا يأمرهم بالدعوة إلى حملة صليبية جديدة . وأعلن البابا غفران ذنوب كل من يشترك في الحملة الصليبية الجديدة ( فاستخف قومه فأطاعوه ) الزخرف(54)
فعاد رجع صدى البابا بحملة صليبية ثانية بلغ قوامها ثلاثمئة ألف مقاتل .
الحملة الصليبية الثانية :
وجاءت الحملة الصليبية الثانية , وعلى الرغم من أن الهدف الرئيسي لهذه الحملة هو الوصول إلى الأراضي المقدسة في الشام , إلا أنه وبعد ضغوط من غالبية الجيش توجهت الحملة إلى جبال ( بنطس ) في شمال شرق الأنضول لإطلاق سراح ( بوهيمند) الذي كان مسجوناً هناك ، و انتزاع بلاد الشام من (كمشتكين) .
فكيف استطاع (كمشتكين) مواجهة هذه الحملة ببضعة آلاف من رجاله : إنها الثقة بالله وبنصره للمؤمنين , وإعداد المستطاع من القوة , والدعاء , ثم الصبر والثبات ( ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبراً وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين ) البقرة (250 ) وما أحوج المسلمين اليوم وهم يواجهون حملات صليبية متتالية إلى تأمل التكتيك الذي قام به هذا القائد الفذ أمام هذا العدوان الوحشي على بلاد المسلمين .
لما علم (كمشتكين) بتوجههم نحوه أتخذ أغضل الخطط العسكرية , فلم يُقْدِم على الاشتباك بهم مباشرة , بل أمر بإخلاء المدن والبلاد الواقعة على طريقهم ، وإحراق المؤَن والأقوات ، وذلك حتى يحل التعب والإعياء و الجوع بهم ، ثم يتم استدراجهم إلى المناطق الوعرة والحصينة .. حتى إذا تعبوا انقض عليهم الأتراك المسلمون كالأسود .
تقدم الصليبيون و استولوا على أنقرة وقتلوا كل من كان بها من المسلمين ، ومضى الصليبيون في طريقهم فقاسوا من التعب و الجوع ما قاسوا ، وازدادت متاعبهم بسبب حرارة الصيف الشديدة في هضبة الأنضول . ثم توجهوا نحو الشمال الشرقي إلى ( قصطمونية) غير أن تحركهم إليها كان بطيئاً و قاسياً إذ عمد الأتراك المسلمون إلى تدمير كل المحاصيل ، إضافة إلى نفاذ الماء عبر الصحراء ، زد على ذلك ما يجدون من الغارات تلو الغارات التي يشنها عليهم المسلمون .
وحدث مرة أن خرجت فرقة من الصليبيين بهدف جمع حبوب الشعير و النباتات التي لم تنضج بعد والتفاح البري ، فطوقهم المسلمون في حرش كبير ، و أحرقوه عليهم و أبادوهم عن أخرهم , مما أجبر الجيش الصليبي على أن يمشي كتلة واحدة وهذا يضاعف من معاناته .
وخارج أخرجه حب الطمع *** فرَّ من الموت وفي الموت وقع
معركة (مرسيفان) :
وأرسل(كمشتكين) إلى بعض حكام المسلمين يطلب المدد , استعدادا لملاقاة الصليبيين في معركة (مرسيفان) الشهيرة . ففي شهر شوال من عام 494 هـ جهز (كمشتكين) جيشه وأعد الكمائن للصليبيين ، وبنى خطته في مهاجمة الصليبيين على أن تكون على شكل موجات من الفرسان الرماة الذين يأتون بسرعة شديدة إلى قرب الجيش الصليبي فيمطرونهم بسهامهم الماضية ، ثم يعودون وتعقبهم موجة أخرى من مكان آخر , وهي خطة درج الأتراك المسلمون على استخدامها ، ففرضوا بذلك أسلوبهم في القتال على الصليبيين . وكانت ألسنتهم تصيح بالتكبير مما زاد من رعب الصليبيين ، وأوهن عزائمهم .
وانتهى اليوم الأول من معركة ( مرسيفان ) وقد صمد فيها الصليبيون رغم ما تكبدوه من خسائر , وفي اليوم الثاني من المعركة توجهت فرقة من جيش الصليبيين إلى قلعة في منطقة مجاورة لمرسيفان ونهبوا كل ما وجدوه ، فنصب لهم المسلمون كميناً واستردوا كل ما سلبوه وقتلوا المئات من عسكر الصليبيين .
وفي اليوم الثالث من المعركة , قام رئيس أساقفة ( ميلان) برفع الروح المعنوية المنهارة بين الصليبيين ، فألقى موعظة علىكل الجيش الصليبي وطالبهم أن يعترفوا بذنوبهم ، وعرض عليهم ما زعم أنه أثر مقدس لأحد القديسين وطعام مقدس ، وحرب مقدسة , وبعد سماع الموعظة انتظمت الحشود الصليبية في خمسة جيوش مقاتله . وأعد ( كمشتكين ) خطته بإحكام وتقدم بقواته واشتبك مع الصليبيين في قتال شديد ، وما هو إلا أن قام قائم الظهير ،وإذ بالجيش الصليبي ينحل عقده و ينفرط نظامه , و المسلمون يحصدونهم بنبالهم وسيوفهم , حتى إذا جاء الغسق فروا إلى معسكرهم مهزومين ، فطاردهم المسلمون و طوقوا المعسكر بكامله , وأغلقوا كل المنافذ أمام الصليبيين ، فلم ينج من الحصار إلا الفرسان الذين هربوا من المعسكر قبل اكتمال التطويق . وتقدم المسلمون في داخل المعسكر الصليبي ، فحصدوا المشاة , وغنموا كل ما في المعسكر من النساء و الأطفال و الأموال و المتاع . ولم يكتف القائد المسلم ( كمشتكين) بهذا النصر بل هرع – و معه بعض الفرسان – بمطاردة فلول الصليبيين فقتل ما يزيد على ثمانية من أمراء الصليبيين .
ودنونـا ودنوا حتى إذا *** أمكن الضرب فمن شاء ضرب
تركوا القاع لنا إذ كرهوا *** غمرات الموت واختاروا الهرب
وما أن استعاد (كمشتكين ) شيئاً من أنفاسه إلا وجيوش أخرى للصليبيين بقيادة ( وليم الثاني) تتقدم نحوه فحاصر(قونية) لكن الحامية الاسلامية التي كانت تحرسها قاومت هذا الحصار ببسالة فتركها ( وليم ) و توجه إلى ( هرقلة) . وعلم (كمشتكين ) بذلك فأغذ السير جنوباً لمواجهته ، وانضم إليه ( قلج أرسلان) بنفسه ، وسار القائدان المسلمان بسرعة ، فوصلا (هرقلة) قبل الصليبيين ، وقاموا بتدمير مصادر المياه ، فطميت الآبار الواقعة على امتداد الطريق ، وبعد أن أرهق المسلمون الصليبيين بالعطش عدة أيام طوقوهم ،وبعد معركة قصيرة الأمد انهزم الصليبيون هزيمة ساحقة ,وفر الفرسان تاركين المشاة و النساء والأطفال .
واشتد حنق الصليبيين ، فعبرت قوات صليبية متحدة مضيق البسفور ، وكانوا يدمرون كل ما يمرون عليه ، وأخذوا طريقهم نحو مدينة ( قونية ) . ولما علمت الحامية الإسلامية هناك بتوجه الصليبيين إليهم بجيش كبير ، قد لا يستطيعون مدافعته ، قرروا إخلاء المدينة وحملوا معهم كل ما فيها من مواد غذائية ،و جردوا بساتينها من الفواكه ,حتى إذا أتي الصليبيون إليها لم يجدوا إلا القليل ، ثم شرع الصليبيون يشقون طريقهم من (قونية) متجهين نحو (هرقلة) ،وبدأوا يعانون صعوبات جمة ، و يكابدون عقبات قاسية ، فقد اشتد بهم العطش و الجوع عبر الصحراء . وكان الفرسان المسلمون ينقضون عليهم من حين لآخر ، و يطلقون سهامهم على قلب الجيش و يعودون أدراجهم ، كما قتلوا كل الذين خرجوا من صفوفهم للبحث عن الحطب أو ضلوا الطريق .
و لما وصل الصليبيون إلى مدينة (هرقلة) وجدوا سكانها قد أخلوها بكل ما فيها مثل ما حدث في (قونية)
وكان (كمشتكين) و(قلج أرسلان) يعرفان جيداً متاعب الصليبيين ، وما أصابهم من عطش شديد ، فكمنا برجالهما داخل النباتات على ضفة النهر خلف مدينة هرقلة ، و أصبح الصليبيون كالكلاب المسعورة من شدة العطش ، فلما شاهدوا مياه النهر تلمع من وراء المدينة ، حلّوا صفوفهم و اندفعوا في صخب شديد يصطرخون صوب النهر ، و هم لا يعلمون أن مصارعهم تنتظرهم على ضفاف النهر .
لزم المسلمون أماكنهم في سكون تام داخل النباتات الكثيفة على طول ضفة النهر ، وبمجرد أن أقترب الصليبيون نحو الماء أمطرهم المسلمون وابلاً كثيفاً من السهام ، و حملوا عليهم بقوة فلم يستطع الصليبيون الوقوف أمام الهجوم الكاسح لأبطال الإسلام ، فاضطربوا و شدهو من هول المفاجأة ، فارتدوا على أعقابهم بلا نظام ، وتقدمت بعض كتائب المسلمين خلف الصليبيين و قطعت عليهم خط الرجعة ،وجرى تطويق الجيش الذي اختلط فرسانه بمشاته ، و بعد قتال قصير في أراضٍ طينية سبخة ضفر المسلمون بأعدائهم وحصدوهم ومزقوهم شر ممزق ، وشفوا صدورهم و صدور قوم مؤمنين , وغنموا كل ما كان يحمله العدو من خيول و أموال و أسلحة .
ينثني الصَّارم المهند والـرمح *** الرُّدَينيُّ والشجاع الجريٌّ
حيث لا أنثني ولا ينثـني *** بيدي صــارم ولا سمهريُّ
من رآني فقد رأى مشرفياًّ *** ماضياً في يمينـــه مشرفيُّ
وقد كان لهذه الانتصارات على هذه الحملات أثر كبير في خمود الحماسة للحروب الصليبية في أوروبا قرابة نصف قرن من الزمان والحمد لله رب العالمين .
هذا شيء من تاريخ هذا البطل المسلم , وهذه حقبة لامعة من أمجادنا فهل درستها ووعتها الأجيال المسلمة اليوم الهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم .