23-04-2024
|
|
الاحتضار ولحظة الفراق
إنها اللحظة الحاسمة، لحظة الفراق، لحظة الوداع، لحظة هي في حقيقتها ملخص لكتاب الحياة كله، فمن وُفّق لصالح العمل ثُبِّت وأُعِين، ومن حرم الخير والطاعة ولم يزل عبد نفسه والشيطان خُذِل وتلكأ في تلك اللحظة. بينما أنت بين أهلك وأحبابك، تغمرك السعادة ويغشاك السرور، تمازح هذا، وتلاطف ذاك، بهي الطلعة، فصيح اللسان، قائم الأركان، إذا بقدميك تعجزان عن حملك، لتسقط شاحب الوجه، شاخص البصر، قد أعجم لسانك ..
في الحياة ومواقفها عبر لمن اعتبر،
وفي تقلب الناس وتبدل أحوالهم ذكرى لمن تذكر، يسير الناس -كل الناس- في هذه الدنيا، فرحين جَذِلين، يتسابقون في دنياهم، كل بحسبه، الصغير والكبير، الرجال والنساء، ترمقهم من حولك يجرون ويلهثون، كلٌ يسعى لشأنه، هذا وغيره هو سنة الحياة وسجيتها.
ولكن العاقل الحصيف يرى البشر في غدوهم ورواحهم، قد أحدقت بهم أسراب الغفلة، ونزلت في مرابعهم جيوش النسيان وطول الأمل.
للمرء في حياته سعيان: سعي لآخرته وسعي لمعاشه ودنياه: (وَبْتَغِ فِيمَا ءاتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الاْخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا) [القصص: 77].
وواقع الكثير منها -أيها الأحباب-، إلا من رحم ربي، تقديم السعي في تأمين المعاش، والمأكل والمشرب على السعي في عمارة الحياة الحقيقية، والمنزل الأبدي السرمدي.
قال تعالى: (عْلَمُواْ أَنَّمَا الْحَيَوةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِى الاْمْولِ وَلاْوْلْـادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِى الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مّنَ اللَّهِ وَرِضْونٌ وَمَا الْحَيَوةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَـاعُ الْغُرُورِ) [الحديد: 20].
روى مسلم عن جابر -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مرّ بالسوق داخلاً من بعض العالية، والناس كنفته، فمرّ بجدي أَسَكّ ميت، فتناوله فأخذ بأذنه، ثم قال: "أيكم يحب أن هذا له بدرهم؟!"، فقالوا: ما نحب أنه لنا بشيء وما نصنع به. قال: "أتحبون أنه لكم؟!"، قالوا: والله لو كان حيًّا كان عيبًا فيه أنه أسكّ، فكيف هو ميت؟! فقال: "فوالله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم".
وروى أيضًا عن المستورد بن شداد -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم أصبعه هذه في اليم، فلينظر بم يرجع".
هذه هي حقيقة الدنيا، وتلك صورتها، بكل وضوح وإيجاز.
وفي اليومين الماضيين في هذا الحي، وقع حادثان اثنان لسيارتين، وقفتُ على إحداهما وقد لفظ قائد السيارة أنفاسه الأخيرة وفارق هذه الدنيا، والناس من حوله جمهرة، يضحكون وينظرون، وسؤالهم الوحيد: كيف جرى الحادث؟! من المتسبب فيه؟! وهكذا.
أسئلة جامدة بعيدة كل البعد عن التفكر والاعتبار، الميت أمامنا مسجىً قد ودّع هذه الحياة -رحمه الله- ولم يسأل أحدنا نفسه: ماذا لو كنت مكانه؟! سوف تحل بي ساعة كهذه، على سريري، في بيتي، أو سيارتي، في جو أو بر أو بحر.
لا بد أن تمرّ على كل إنسان تلك اللحظة إن صغيرًا أو كبيرًا.
إنها اللحظة الحاسمة، لحظة الفراق، لحظة الوداع، لحظة هي في حقيقتها ملخص لكتاب الحياة كله، فمن وُفّق لصالح العمل ثُبِّت وأُعِين، ومن حرم الخير والطاعة ولم يزل عبد نفسه والشيطان خُذِل وتلكأ في تلك اللحظة.
بينما أنت بين أهلك وأحبابك، تغمرك السعادة ويغشاك السرور، تمازح هذا، وتلاطف ذاك، بهي الطلعة، فصيح اللسان، قائم الأركان، إذا بقدميك تعجزان عن حملك، لتسقط شاحب الوجه، شاخص البصر، قد أعجم لسانك، حملك أهلك ومحبوك، وتحلقوا حولك، ينادونك، يصرخون بك: يا فلان: ما الذي دهاك؟!
بماذا تحس؟! بماذا تشعـر؟! وأنت تنظر إليهم بعينين ذابلتين، تريد الحديث فما تستطيع، ترفع يديك لتضمهم إليك، فتعجز عن حملهم.
فليت شعري أي حال هي حالك، وقد طُرحت على الفراش، أهلك من حولك، أمك قد غصت بدموعها، وأبناؤك قد ارتموا على صدرك الحنون، وزوجتك قد غشاها الذهول، كلهم يسأل فلا تجيب، ما الذي أصابك؟! مم تشكو؟! تمنّ، اطلب، يفدونك بأموالهم وأرواحهم، وأنت تنظر إليهم قد اغرورقت عيناك بالدموع وتقاطر العرق من جبينك، يبس منك اللسان، فما عدت تنبس ببنت شفة، تريد أن تخاطبهم، تكلمهم، بل تودعهم.
فما إلى ذلك سبيل، ثم دنا منك مخلوق لم تره من قبل، هو يدنو وبصرك يشخص إليه، والذهول قد أحاط بك، حتى يسل روحك شيئًا فشيئًا.
بينا الفتـى مرح الخطـا فزحٌ بما *** يسعـى له إذ قيـل قد مرض الفتـى
إذ قيل بـات بليلـة ما نامهـا *** إذ قيل أصبــح مثخنـًا ما يرتجـى
إذ قيل أصبـح شاخصًا وموجهًا *** ومعللاً إذ قيـل أصبـح قد قضــى
إنه موقف متكرر في كل يوم، لا بد أن يمر به كل إنسان، وإن اختلفت صوره، فهذا على فراش مرضه، وذاك في سيارته، وثالث بالسكتة وهكذا.
من لم يمـت بالسيف مات بغيره *** تعـددت الأسـباب والمـوت واحدٌ
وإليكم شيئًا مما رصده الواقع، وشهد عليه الثقات، من حوادث الاحتضار، وساعات الفراق، والذي لا بد أن يعلم قبل سرد تلك الوقائع أن التوفيق للخاتمة الحسنة، أو الخذلان لخاتمة السوء، إنما هو ترجمة لحياة المرء: إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر.
رجل كان يؤذن في مسجد لمدة طويلة حتى كبر، وكف بصره، وكان يسكن مع أحد أقربائه، قرر هذا القريب أن ينتقل إلى بيت آخر، وكان لزامًا أن ينتقل معه، فاتفق أن يوصله أحد أقربائه إلى مسجده قبيل صلاة الظهر، ثم يعود ليأخذه بعد صلاة العشاء.
وهكذا، دامت الأيام. يقول أحد الصالحين: في ليلة قام وقال لي: دلني على مغسلة الماء. فقلت: أنت مقعد لا تستطيع الحركة والوضوء. فقال: دلني.
أخذته للماء، فمشى معي، وقد كان لا يقوى على الحركة، حتى توضَّأ كأحسن ما يكون الوضوء، ثم توجه إلى صالة البيت، ووجّه وجهه إلى القبلة دون أن يعلمه أحد، ثم أذن كأحسن ما يكون الأذان، وأقام كأحسن ما تكون الإقامة، ثم قبض الله روحه الطيبة بعد أن أتم إقامته.
فليت شعري أيّ أَمْنٍ يمنحه وهو يسمع الكون نداء الحق يوم يأتي يوم القيامة والناس في عرقهم وفزعهم.
في طريق القويعية، كان ثلاثة من الشباب يستقلون سيارتهم، بسرعة كالبرق، والموسيقى تصدح بصوت مرتفع، وهم فرحون جذلون بسماعهم لمغنيهم المحبوب، كان من أبعد ما يفكرون فيه أن يفارقوا هذه الدنيا.
كانت الآمال تطير بأحدهم إلى أفق فسيح لا غاية له، وفجأة حدث ما لم يكن في الحسبان، انقلبت السيارة عدة مرات، وصلت سيارة الإسعاف، حملوا المصابين، أحدهم كان مصابًا إصابات بليغة، جلس صديقاه بجانبه، كان يتنفس بصعوبة قد غطى الدم جسده حتى غيّر ملامحه.
حينئذِ علم الضابط أنه يلفظ أنفاسه الأخيرة، عرف اسمه من صاحبيه، قال له: يا فلان: قل لا إله إلا الله، يا فلان: قل لا إله إلا الله، فيقول: إنني في سقر. الكلام يتردد. يا فلان: قل: لا إله إلا الله. إنني في سقر. ثم يغمض عينيه ويسقط رأسه بعد ارتفاعة يسيرة، فسألهما الضابط: أكان يصلي؟! قالوا: لا والله، ما كنا نصلي جميعًا.
لم يكن يتصور أن يختم له بتلك الخاتمة، لعله قال: العمر طويل، وإذا كبرت تبت وعدت.
وقع حادث بين سيارتين في القويعية كذلك، احترقت إحداهما وفيها رجلان وامرأة، أُخرجوا وقد احترقوا تمامًا، ولما أراد أهل المرأة تكفينها لاحظوا أن يدها قد بترت، عادوا إلى السيارة، فوجدوا اليد بكاملها، والعجب أنها سليمة لم يمسها حرق، وقد ضمت أصابعها ورفعت السبابة تتشهد.
شاب نشأ في طاعة الله ومرضاته، لكنه سرعان ما تنكب عن الطريق، انتكس رأسًا على عقب، أَلِفَ المعاصيَ وجاهر بها مرض، واشتد عليه المرض، وفي ليلة بلغ به المرض مداه، كان أهله جلوسًا حوله، طلب من أخيه الصغير مصحفًا أحضره، أخذه، رفعه وقلبه، ثم دار به على أهله، وقال: أشهدكم أني كافر به. ثم فارق الحياة.
إنها لحظة حاسمة، لحظة مقيتة، حددت المصير والمآل.
شاب كان يسير بسيارته، تعطلت في أحد الأنفاق، ترجّل من سيارته لإصلاح العطل، جاءت سيارة مسرعة فارتطمت به من الخلف، حمل في سيارة الإسعاف إلى أقرب مستشفى، يقول رجل الأمن الذي كان معه في سيارة الإسعاف: كنا نسمعه يتكلم ولم نميز ما يقول، وبعد قليل ميزناه، إنه يقرأ القرآن وبصوت ندي. سبحان الله!! لا تقول: هذا مصاب، بل هو على مشارف الموت ويقرأ القرآن، وبعد قليل رفع أصبع السبابة وتشهد، ثم انحنى رأسه ومات.
امرأة عجوز كانت من أهل الصلاة والطاعة، في يوم وهي في مصلاها ساجدة، أرادت أن ترفع من سجودها فلم تستطع، صاحت بابنها، أجلسها كهيئة السجود، حملها إلى المستشفى، ولكن لا فائدة، فقد تجمدت أعضاؤها على هذه الحال، قالت: يا بني: خذني إلى مصلاي أتعبد وأصلي إلى أن يقبض الله ما يشاء، ولم تزل في صلاة وهي على هيئة السجود، لا تقوى على الحراك، فقبض الله روحها وهي ساجدة، غسلوها وهي ساجدة، وكفنوها وهي ساجدة، أدخلت إلى قبرها وهي ساجدة وتبعث يوم القيامة -بإذن الله- وهي ساجدة.
الخطبة الثانية:
إن فئامًا من الناس، لا يحبون أو لا يحبذون الحديث عن الموت وساعة الاحتضار؛ لأن ذلك على حد زعمهم، يؤلمهم ويشعرهم باليأس ويقطع حبل أملهم الممدود، ويؤرق حياتهم، فهم يريدون العيش دون سماع ما ينغص حياتهم، ويفزع خواطرهم، وأغلب هؤلاء هم ممن قصروا في حق ربهم وخانوا أنفسهم.
وإن الحديث عن الموت كما أنه دين وشرع فهو سجية العقلاء والراشدين، فالتفكير والعمل للمستقبل الواقع لا محالة، عقل وذكاء وزكاة.
قال معاوية -رضي الله عنه- عند موته: أجلسوني. فأجلسوه، فجلس يذكر ربه -جل وعلا- ويسبح الله -سبحانه وتعالى-، ثم بكى وقال لنفسه موبخًا لها: "الآن يا معاوية، الآن جئت تذكر ربك بعد الانحطام والانهدام، أما كان هذا وغض الشباب نضير ريان!!". ثم بكى وقال: "يا رب: ارحم الشيخ العاصي ذا القلب القاسي، اللهم أَقل العثرة، واغفر الزلة، وجُدْ بحلمك على من لم يرجُ غيرك ولا وثق بأحد سواك. ثم فاضت روحه.
ولما حضرت بلالاً الوفاة، قالت زوجته: واحزناه! فكشف الغطاء عن وجهه وهو في سكرات الموت وقال: لا تقولي: وا حزناه، بل قولي: وا فرحاه، غدًا نلقى الأحبة، محمدًا وصحبه.
ولما حضرت محمدَ بن المنكدر الوفاة بكى، قيل له: ما يبكيك؟! قال: "والله ما أبكي لذنب أعلم أني أتيته، ولكن أخاف أني أتيت شيئًا حسبته هينًا وهو عند الله عظيم".
قال الشعبي -رحمه الله-: لما طعن عمر جاءه ابن العباس -رضي الله عنهم أجمعين- فقال: يا أمير المؤمنين: أسلمت حين كفر الناس، وجاهدت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين خذله الناس، وقُتلت شهيدًا، ولم يختلف عليك اثنان، وتوفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو عنك راضٍ، فقال له: أعد مقالتك. فأعاد عليه. فقال:" المغرور من غررتموه، والله لو أن لي ما طلعت عليه الشمس أو غربت، لافتديت به من هول المطلع".
تلك مواقف القوم أو شيء منها في القديم والحديث، عند ساعة الاحتضار وغرغرة الروح، فتذكر أن "لا إله إلا الله" التي تنطق بها الآن كأيسر ما يكون النطق، صعبة عسيرة في تلك اللحظة على العاصي، الذي لم يزل يحارب الله بأنواع الصدود والآثام.
تلك اللحظة هي المحصلة النهاية لشريط الحياة الطويل، هي البشارة للمؤمن بروح وريحان، وربٍ راضٍ غير غضبان، وهي العلامة والإشارة لحياة الضنك والعذاب في الآخرة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَـاكِن لاَّ تُبْصِرُونَ * فَلَوْلاَ إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِن كُنتُمْ صَـادِقِينَ * فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنّتُ نَعِيمٍ * وَأَمَّا إِن كَانَ مِنْ أَصْحَـابِ الْيَمِينِ * فَسَلَـامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَـابِ الْيَمِينِ * وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُكَذّبِينَ الضَّالّينَ * فَنُزُلٌ مّنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ * إِنَّ هَـاذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ * فَسَبّحْ بِسْمِ رَبّكَ الْعَظِيمِ) [الواقعة: 83-96].
hghpjqhv ,gp/m hgtvhr
hghpjqhv ,gp/m hgtvhr hgtvhr
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|