22-10-2019
|
|
عظم كلمة الحق
اعلم – رحمني الله وإياك – أن لفظ الحق جاء بالتعريف في القرآن الكريم (الحق) 103 مرات، أما بالنكرة فقد جاء فيه (حق) ويشمل فيه فعل الماضي في مواضع كثيرة 34 مرات. فقد يكون فيه حق بمعني حق الأموال أو حق البنات كقوله تعالى {قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ} [هود: 79] وكقوله تعالى: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ} [المعارج: 24]. أما فعل الماضي مع تاء التأنيث فقد جاء فيه خمس مرات (حقت). أما فعل الماضي مع تاء التأنيث بالمبني للمجهول (وحُقَتْ) فقد جاء فيه مرتين في سورة الانشقاق. أما صيعة فعل المضارع (يحق) ففد جاء ثلاث مرات. أما مصدر كلمة الحق (حقا) فقد جاء فيه 16 مرات. أما لفظ حقيق وهي تشتمل معنى الحق فقد جاءت في القرآن الكريم مرة واحدة في سورة الأعراف, ومجموع ذلك كله 164 مع الإضافة بلفظ حقيق. والله أعلم. هذا ما وقفت عليه إلى الآن ولا أدَّعي أنَّي حصرتها وقد يفوتني منها ما لم أذكره الآن ولكنني أرجوا أن أتناول ما شد انتباهي في كلمة الحق وتعليقات مختصرة في مواضعها في مقالات أخرى إن شاء الله تعالى. كلمات تأتي بمعنى الحق حسب ما وققت عليها إلى الآن:
الأول: تأتي كلمةُ الحقِّ في القرآن الكريم مثلاً باسم الصِّدق- كما مر بالتعريف - كقوله تعالى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [الزمر: 33].
الثاني: تأتي كلمة الحق في كتاب الله باسم الطيب؛ كما قال تعالى: {قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ} [المائدة: 100]، وقال تعالى: {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [الأنفال: 37]. قال أبو جعفر - رحمه الله -: "يقول - تعالى ذكرُه -: يَحشُر الله هؤلاء الذين كَفَروا بربهم، ويُنفِقون أموالَهم للصدِّ عن سبيل الله - إلى جهنَّم؛ ليُفرِّق بينهم - وهم أهل الخَبَث كما قال، وسَمَّاهم (الخبيث) - وبين المؤمنين بالله وبرسوله، وهم (الطيِّبون)، كما سَمَّاهم - جلَّ ثناؤه - فمَيَّز - جلَّ ثناؤه - بينهم بأنْ أَسَكن أهل الإيمان به وبرسوله جنَّاته، وأَنزَل أهلَ الكفر نارَه". أنظر تفسير الطبري جامع البيان ت شاكر (13/ 534). وأيضًا قد جاء مِثلُ هذا الأسلوب بأنَّ أهل الحقِّ هم الطيِّبون، وأنَّ أهل الباطل هم الخُبثاء، كذلك في قوله تعالى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [آل عمران: 179].
الثالث: تأتي كلمة الحق كما في كتاب الله باسم الهُدى؛ كما قال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} [القصص: 50].
الرابع: تأتي كلمة الحق بمعنى الإسلام كما فُسِّر الصراط المستقيم: أنَّه الحق، وأنَّه الإسلام، وأنَّه الكتاب، وكل هذه المعاني تَتَّفِق ولا تتنَافى؛ كما أفاده شيخ الإسلام ابن تيميَّة - رحمه الله - في بعض بحوثه.
الخامس: تأتي كلمة الحق بمعنى الوحي كما سُمِّي كذلك في بداية مجيئه من الله جلَّ جلاله؟ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ المُؤْمِنِينَ أَنَّهَا قَالَتْ: أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ فِي النَّوْمِ، فَكَانَ لاَ يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ، ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الخَلاَءُ، وَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ - وَهُوَ التَّعَبُّدُ - اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ العَدَدِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِعَ إِلَى أَهْلِهِ، وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا، حَتَّى جَاءَهُ الحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ،" (رواه البخاري رحمه الله). فقولها رضي الله عنها حتى جاء الحق هنا بمعنى حتى جاءه الوحي كما ترى. كلمات تقابل الحق في القرآن الكريم حسب ما وققت عليها إلى الآن:
الأول:- أمَّا بالنسبة للمُقابَلة: فتجد أنَّ الله - سبحانه - يُقابِله بلفظة (الباطل) كما هو المشهور؛ كما قال تعالى: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء: 81]، وقال -تعالى-: {قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} [سبأ: 49]، وقال تعالى: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} [الأنبياء: 18]. هذه الآيات تدلُّ على أنَّ قوة الحقِّ وغَلبتَه على أهل الباطل عظيمة مهما طَغَوا وتَجبَّروا، ما دام أهلُ الحقِّ معهم القوي المتين، وهو الله - جلَّ جلاله - الذي إرادته تَنفُذ، وإرادة ما دونه من العبيد تَزول،وتَضمحل أمام إرادته؛ قال تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ} [محمد: 10 - 11]. قال الإمام الطبري رحمه الله: القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} [سبأ: 49 ]. يقول جل ثناؤه لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: (قُلْ) يا محمد لمشركي قومك {إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ} وهو الوحي، يقول: ينزله من السماء، فيقذفه إلى نبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم (عَلَّامُ الْغُيُوبِ) يقول: علَّام ما يغيب عن الأبصار، ولا مَظْهَر لها، وما لم يكن مما هو كائن، وذلك من صفة الرب، غير أنه رفع لمجيئه بعد الخبر، وكذلك تفعل العرب إذا وقع النعت بعد الخبر، في أن أتبعوا النعت إعراب ما في الخبر، فقالوا: إن أباك يقوم الكريم، فرفع الكريم على ما وصفت، والنصب فيه جائز؛ لأنه نعت للأب، فيتبع إعرابه(قُلْ جَاءَ الْحَقُّ) يقول: قل لهم يا محمد: جاء القرآن ووحي الله( وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ) يقول: وما ينشىء الباطل خلقًا، والباطل هو فيما فسره أهل التأويل: إبليس(وَمَا يُعِيدُ) يقول: ولا يعيده حيًّا بعد فنائه. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله {إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ}: أي بالوحي {عَلام الْغُيُوبِ * قُلْ جَاءَ الْحَقُّ} أي: القرآن {وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} والباطل: إبليس، أي: ما يخلق إبليس أحدًا ولا يبعثه. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلامُ الْغُيُوبِ} فقرأ {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ...} إلى قوله {وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} قال: يزهق الله الباطل، ويثبت الله الحق الذي دمغ به الباطل، يدمغ بالحق على الباطل، فيهلك الباطل ويثبت الحق، فذلك قوله {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلامُ الْغُيُوبِ}. أنظر تفسير الطبري جامع البيان ت شاكر (20-21/ 419)
الثاني: تأتي كلمة الحق لتقابل الضلال في القرآن الكريم: وقد يقابل الله الحق بالضلال كما قال تعالى سبحانه بعدما بيَّن أنه هو الحق {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ * قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ...} [سبأ:23- 24]. وقال تعالى: {فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [يونس: 32]. وقال تعالى: {قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ} [ سبأ: 50 ]. قال أبو جعفر الطبري رحمه الله: القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ} [سبأ: 50 ]. يقول تعالى ذكره: قل يا محمد لقومك: إن ضللت عن الهدى فسلكت غير طريق الحق، إنما ضلالي عن الصواب على نفسي، يقول: فإن ضلالي عن الهدى على نفسي ضره، {وَإِنِ اهْتَدَيْتُ} يقول: وإن استقمت على الحق {فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي} يقول: فبوحي الله الذي يوحِي إلي، وتوفيقه للاستقامة على محجة الحق وطريق الهدى. وقوله: {إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ} يقول: إن ربي سميع لما أقول لكم حافظ له، وهو المجازي لي على صدقي في ذلك، وذلك مني غير بعيد، فيتعذر عليه سماع ما أقول لكم، وما تقولون، وما يقوله غيرنا، ولكنه قريب من كل متكلم يسمع كل ما ينطق به، أقرب إليه من حبل الوريد..انتهى. أنظر تفسير الطبري جامع البيان ت شاكر (21-22/ 419)). يقول جل ثناؤه لنبيه:
الثالث: ويُقابِل الله تعالى الحق بالهوى في القرآن الكريم؛ كما قال تعالى: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} [المؤمنون: 71]، الآية. وقال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} [الجاثية: 23]، الآية.
الرابع: ويُقابِل الله تعالى الحق بالظن؛ كما قال تعالى: {وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [النجم: 28]. وقال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} [ص: 27 ]. وظنهم هذا الفاسد بأن الله خلق السموات والأرض باطلا يلزم منه أن يجعل الله الذين آمنوا كالمفسدين في الأرض - حاشا لله - ويجعل المتقين كالفجار وذلك يخالف عدل الله الذي قامت به السموات والأرضين وأرسل بسببه الرسل وأنزل به الكتب والميزان. ولذلك جاء بعد هاتين الآيتين بآية بيَّن الله سبحانه فيها الحق المبين الذي لا مرية فيه وجعلها عليهم حجة وردا على ظنهم ذاك الباطل المشين فقال سبحانه {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ } [ص:28]. وقد قال تعالى: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: 191].
الخامس: ويقابل الله الحق اللعب في القرآن الكريم كما قال تعالى {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ * مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} الدخان: 38-39] وقال تعالى {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون: 115]. ويفهم من هذه الآيات أن عظيم شأن الله عزَّ وجلَّ ونزاهته وحكمته وعدله التام تنافي عن أن يخلق شيئا للعبث ولذلك قال تعالى بعد هذه الآية {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون: 116 ]. ثم بيَّن الله سبحانه أنه لابد للعبد المؤمن أن يعبد ويدعوا إلهاً يستعين به في الملمَّات لا محالة ولكن لجهل الكفار وخسارتهم في الدنيا والآخرة يدعون إلهاً لا برهان لهم عند ربهم فجعل الله حسابهم عند الله يوم القيامه فسيحاسبهم وسيجازيهم بعدله كما قال تعالى بعد هذه الآية {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [المؤمنون: 117]. وقال تعالى في سورة الأنبياء: {لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ * بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} [ الأنبياء: 17-18 ].
السادس: ويُقابِل الله الحق بالسراب والخيال؛ كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [النور: 39]، الآية.
السابع: ويُقابِل الله تعالى الحق بالسِّحر؛ كما قال تعالى حكاية عن أهل النار: {أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ} [الطور: 15]. وأيضًا قال الله تعالى في آية أخرى حكاية عن أهل النار: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} [الأنعام: 30]. فالله - سبحانه - هو الحقُّ والقرآن الذي جاء به النبي -صلى الله عليه وسلم- حقٌّ، والنبي -صلى الله عليه وسلم- حقٌّ، والموت أيضًا حق؛ لأنَّه شيء واقِع لا محالة لكلِّ إنسان كما أسلَفنا. وفي الدعاء المأثور الذي ثَبَت في صحيح البخاري: حدَّثنا قبيصة، حدَّثنا سفيان عن ابن جريج عن سليمان عن طاوس عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يَدعو من الليل: «اللهمَّ لك الحمد؛ أنتَ ربُّ السموات والأرض، لك الحمد؛ أنت قَيِّم السموات والأرض ومَن فيهنَّ، لك الحمد؛ أنت نورُ السموات والأرض، قولُكَ الحق، ووعْدُك الحق، ولقاؤك حقٌّ، والجنَّة حقٌّ، والنار حق، والساعة حق، اللهمَّ لك أسلمتُ، وبك آمنتُ، وعليك توكَّلتُ، وإليك أنَبْتُ، وبك خاصَمتُ، وإليك حاكَمتُ، فاغفِر لي ما قدَّمتُ وما أخَّرتُ، وأسْررتُ وأعلنتُ، أنتَ إلهي لا إله لي غيرك»، حدَّثنا ثابت بن محمد: حدَّثنا سفيان بهذا، وقال: أنت الحق، وقولُك الحقُّ. بل كل الدِّين الذي جاء به محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الله هو الحق والدليل على ذلك قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ} [محمد: 2]. أمثلة ضربها الله سبحانه للحق في القرآن الكريم: ولقد مثَّل الله لنا الحقَّ في القرآن الكريم بأمثلةً كثيرة؛ لنَفْهم مفهومه الصحيح، ولنتمسَّك به بالنواجذ، ونَذَر ونَبتعِد عن الباطل.
المثال الأول: جاء الله في كتابه الكريم بأمثلة كثيرة من خلْق الله تعالى في سورة الأنعام، فخَتَم: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ} [الأنعام: 102]؛ أي: هذا هو الخالِق المُبدِع - كما بيَّن لكم ربُّكم وخالقكم - الذي لا يستحقُّ معبودٌ غيره العبادةَ، فاعبدوه واجعَلوه - سبحانه - وكيلكم على كلِّ شيء، وذَرُوا أيَّ شيء آخرَ لا يَخلق، بل يُخلَق. فتحقيق توحيد الربوبية حق التحقيق يَستلزِم توحيد العبودية، وذلك لمن يُوفِّقه الله الحقُّ المبين. وهكذا جاء مثل الآية السابقة في سورة غافر، لما جاء الله بأمثلة كثيرة مُتنوِّعة من خلْقه - سبحانه - قال: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} [غافر: 62].
المثال الثاني: وهكذا تجد أنَّ الله - سبحانه - جاء بأمثلةٍ كثيرة في القرآن الكريم ككيفيَّة خلْق الإنسان في سورة الحج من أوَّل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَة} [الحج: 5]، الآية، فخَتَم الله - سبحانه -: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِير} [الحج: 62]. وقد تَطوَّرت العلوم التجريبيَّة في هذا العصر الحديث حتى وقَفتْ على ما قاله الله - سبحانه - في هذه الآية التي في سورة المؤمنون قبل ألف وأربعمائة عام، والتي هي عين الحق، وكما قاله - سبحانه - ولكنَّه عنادٌ وحسَدٌ لِمَن طمَس الله بصيرتهم من أن تتوقَّد قلوبهم بنور الحق، ويَنقادُوا ويُذعِنوا له.
المثال الثالث: فقد مثَّل الله - سبحانه - أهل الباطل في سورة البقرة - خُصوصًا أهل النِّفاق - مرَّة بمِثال مائي، ومرَّة بمثال ناري؛ قال تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} [البقرة: 17]، الآيات. أما أهلُ الحقِّ، فنورُهم عظيم ثابتٌ، فهم مُطمئنُّون به مُستمتِعون به، وليس نورهم كالبرق الذي يلوحُ في الأفق تارة، ويغيب تارة أخرى، كما هو حال المنافقين الذين ليس لهم مبدأ يَثبُتون عليه، وليس لهم سكينة ولا طمأنينة ولا قَرارٌ، والله أعَلْم. وقد قال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 122]. وقال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور: 40]. وهكذا يكون حال نور المؤمنين والمنافقين في يوم القيامة، فبينهم فرْقٌ شاسِع كما سترى في هذه الآية، قال تعالى: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد: 12 - 13].
المثال الرابع: مثال للدنيا في سورة الكهف من أوَّل قوله: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ} [الكهف: 32] الآية، إلى قوله تعالى: {هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا} [الكهف: 44]. والآية دليل على أنَّ مَن جعَل وَلايته لغير الله مهما كانت، فحَبْله مقطوع كما هو مَخذول وله خَيْبة الأمل، وإنَّما وَلاية الحق لله، وهي خير ثوابًا وخير أملاً، كما هي حالة الرجل الذي تَبرَّأ من الحول والقوة، وأسندَ كلَّ شيء لله - سبحانه وتعالى - وتوكَّل على ربِّه وحدَه، وقال: {مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ} [الكهف: 39]، فحَبْله مَتين وماسِك بالعروة الوثْقى التي لا انفصام لها، وله خير الأمل والثواب في الدنيا والآخرة. المثال الخامس: مِثالٌ للحق والباطل في سورة الرعد؛ قال تعالى: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ} [الرعد: 17]. وقد ذكَر الله - سبحانه - في خاتمة هذه الآية أنَّ الباطل كالزَّبَد الذي سيَذهب جُفاءً لا قيمةَ له، بل ولا يُنتفَع به في شيء أبدًا، كما ذكَر الله أنَّ الحق كالماء الذي يَمكُث في الأرض، ويَنتفِع به العباد والبلاد، والشجر والدواب. لذا جاء في الحديث: عن أبي قتادة بن ربعي الأنصاري، أنه كان يُحدِّث، أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مُرَّ عليه بِجَنازة، فقال: «مُستريح ومُسترَاح منه»، قالوا: يا رسول الله، ما المُستريح والمُستراح منه؟ قال: «العبد المؤمن يستريح من نَصَب الدنيا وأذَاها إلى رحْمة الله، والعبد الفاجِر يَستريح منه العباد والبلاد، والشجر والدوابُّ». يُفهَم من الحديث أنَّ العبد المؤمن وإن اسْترَاح من نَصَب الدنيا وتَعبها، فإن العباد والبلاد، والشجر والدواب، لَم يَستريحوا منه، بل هم مُحتاجون إلى نفْعه وبركته. وقد قال تعالى: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ} [الدخان: 29]، ويُفهَم من هذه الآية أنَّ السماء والأرض تَبكي لموت المُوحِّدين الصالحين المُخلِصين، بل قد اهتزَّ عرش الرحمن بموت سعد، فهنيئًا لِمَن آمَن وسعد. وهكذا تجد أنَّ أهل الحقِّ عندهم الخيريَّة المُطلَقة، وهم الجديرون بأنْ يُتَّبَعوا، وأنْ يَهدوا الناس إلى سُبُل الخير والرَّشاد؛ كما قال تعالى: {قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [يونس: 35]. أمَّا المُكذِّبون للحقِّ، فتَجدهم في حَيرة وضلال وتَخبُّط، كما تَتجدَّد آراءهم وقوانينهم بين حين وآخر، فهم دائمًا في شطْبٍ وتعديل، وإضافات لا حصْرَ لها، وقد قال الله - سبحانه وتعالى -: {بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} [ق: 5]. والله - سبحانه وتعالى – أعلم.
u/l ;glm hgpr
u/l ;glm hgpr u/l
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|