الحمد لله الذي أنقذنا بنور العلم من ظلمات الجهالة، وهدانا بالاستبصار به عن الوقوع في عماية الضلالة، ونصب لنا من شريعة سيدنا محمد أعلى علم وأوضحَ دلالة، والصلاة والسلام على سيدنا محمدٍ الناطق بلسان الكمال، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فلا يمكن للعبد المؤمن وهو يتدبر آيات الله في كتابه الكريم، ويقف عند معانيها، ويسترشد بهديها، إلا أن يستحضر تنزُّلات هذه الآيات على واقع الناس اليوم؛ ليهتدي بنورها، ويتلمس بذلك واقعًا مبنيًّا على أسس سليمة ومنضبطة لشرع الله ولحدوده.
لذلك فأي دراسة تعنى بهذا المنهج (قراءة في النص القرآني)، من شأنها أن تفيد في فهم خطاب الشارع للناس، وترشدهم إلى ما ينفعهم في معاشهم ومعادهم.
وتأتي هذه الوقفات مع قول الحق سبحانه: ï´؟ الَّذِي
أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ
وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ ï´¾، لتحقيق نفس الغاية والوصول إلى نفس الأهداف.
وقد ضمنت قراءتي هذه جملة من العناصر، استخلصتها من تفاسير العلماء، وربطتها بما ينفع الناس في واقعهم اليوم.
الوقفة الأولى: بيان إنعام الله على قريش:
يقول الحق سبحانه في كتابه الكريم: ï´؟ لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ * إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ ï´¾ [قريش: 1 - 4].
فهذه السورة مكية[1]، عدد آياتها أربع آيات تأتي في ترتيب السور القرآنية 106 /114، لها رابط بالسورة التي قبلها سورة الفيل، فقد قيل في بيان هذا الربط أن الحق سبحانه "أهلك أصحاب الْفِيلِ لِتَبْقَى قُرَيْشٌ، وَمَا أَلِفُوا مِنْ رِحْلَةِ الشتَاءِ وَالصيْفِ"[2]، وقد عد بعض الصحابة رضي الله تعالى عنهم السورتين سورة واحدة، منهم عمر رضي الله تعالى عنه[3]، وقد قرأهما معًا في ركعة واحدة من المغرب[4]، وفي مصحف أبي بن كعب أنهما سورة واحدة لا فصل بينهما[5]، نظرًا لهذا الترابط بينهما.
فأمرُ الله لقريش بعبادة "رب البيت" يرتبط بوجود البيت أو بقائه بعد ما تعرض للهجوم من أصحاب الفيل، ففي سورة الفيل إشارة إلى النعمة التي تكرم بها سبحانه عليهم في صرف من أراد إهلاكهم، فجاء الترابط بين الآيات في السورتين هكذا:
• بيان منة الله عز وجل على أهل مكة بما فعل بأصحاب الفيل الذين قصدوا مكة لهدم الكعبة، فبيَّن هنا في هذه السورة نعمة أخرى، ومنة جليلة أخرى على قريش، وهي إيلافهم مرتين في السنة: مرة في الصيف ومرة في الشتاء في أمن واطمئنان، وسلم وسلام، مقابل إفراد الله بالعبودية شكرًا وتكرمًا.
والإيلاف بمعنى الجمع والضم، فيه عند المفسرين أربعة أقاويل:
الأول: نعمتي على قريش؛ لأن نعمة الله عليهم أن ألفه لهم، قاله ابن عباس ومجاهد.
الثاني: لإيلاف الله لهم؛ لأنه آلفهم إيلافًا، قاله الخليل بن أحمد.
الثالث: لإيلاف قريش حَرَمي وقيامهم ببيتي، وهذا معنى قول الحسن.
الرابع: لإيلاف ما ذكره من رحلة الشتاء والصيف في معايشهم[6].
ويمكن فهم معنى الآية بتفسير اللام في "لإيلاف"، فقد قيل في توضيح هذا المعنى: "هذه اللام تتصل بما قبلها على معنى: أهلك الله أصحاب الفيل لتبقى قريش، وتألف رحلتيها، وقيل: معنى اللام التأخير على معنى: ليعبدوا ربَّ هذا البيت ï´؟ لإِيلاف قريش ï´¾؛ أَيْ: ليجعلوا عبادتهم شكرًا لهذه النعم واعترافًا بها، يقال: ألف الشيء وآلفه بمعنى واحد، والمعنى: لإيلاف قريش رحلتيها، وذلك أنه كانت لهم رحلتان؛ رحلةٌ في الشتاء إلى اليمن، ورحلة في الصيف إلى الشام، وبهما كانت تقوم معايشهم"[7]، فالمراد إذًا: التجارة التي كانوا يقومون بها مرتين في السنة، وقيل أربعة[8]، لكن عامة أهل التفسير أنها رحلتان: في الصيف يتجهون إلى الشام؛ لأن فيها تجارة الفواكه، وفي الشتاء يتجهون إلى اليمن؛ لأن المحصولات الزراعية تكون في هذا الوقت من السنة، اختاره الزجاج ومقاتل والسُّدي[9]، وقَالَ ابن عباس: "كَانُوا يشتون بمكة، ويصيفون بالطائف"[10]، وقال عكرمة: "كَانَتْ قُرَيْشٌ تَتجِرُ شِتَاءً وَصَيْفًا، فَتَأْخُذُ فِي الشتَاءِ عَلَى طَرِيقِ الْبَحْرِ وَأَيَلَةَ إِلَى فِلَسْطِينَ يَلْتَمِسُونَ الدفَاءَ، وَأَما الصيْفُ فَيَأْخُذُونَ قِبَلَ بَصْرَى وَأَذْرِعَاتِ يَلْتَمِسُونَ البرد، فذلك قوله: إيلافهم"[11]، فإذًا الرحلتان - على قول العامة - وما تجنيهما من نعمة عظيمة وفوائد جمة، تستوجب منهم الطاعة والعبادة وشكر المُنعِم، لهذا جاء بعده - أي: بعد تذكيرهم بهذه النعم وهذا الفضل -: "فليعبدوا رب هذا البيت".
فالسورة إذًا نزلت في قريش؛ إظهارًا لنعم الله عليهم، وأمرًا لهم في المقابل بإفراده سبحانه بالعبودية الخالصة، جاء في أسباب النزول للواحدي: "قوله تعالى: "لإيلاف قريش"، السورة نزلت في قريش، عن سعيد بن عمرو بن جعدة عن أبيه عن جدته أم هانئ بنت أبي طالب قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله فضل قريشًا بسبع خصال - لم يعطها أحدًا قبلهم، ولا يعطيها أحدًا بعدهم -: إن الخلافة فيهم، وإن الحجابة فيهم، وإن السقاية فيهم، وإن النبوة فيهم، ونُصروا على الفيل، وعبدوا الله سبع سنين لم يعبده أحد غيرهم، ونزلت فيهم سورة لم يذكر فيها أحد غيرهم: "لإيلاف قريش"[12]، وفي لفظ عشر سنين.
فإذن الوقفة الأولى تبيِّن لنا أن الله عز وجل أنعم على قريش بأسباب سبل العيش الطيب الذي يستوجب منهم شكره سبحانه بإفراده بالعبودية، فقد آمنهم الله من كل غزو في حرمهم - كما جاء في تفسير ابن أبي حاتم عن مجاهد[13] - وهذه نعمة جليلة نفهمها في سياق ما تعيشه بعض الأوطان اليوم من الخوف والاضطراب الداخلي الذي يتبعه ضعف الاستثمار الخارجي، وهذه كلها من تداعيات غياب الأمن في المجتمع.
فقد أوضحت السورة في إجمال قبل التفصيل أن العطاء يستوجب الحمد والشكر، وفي الشكر يتحقق المزيد ويرفع العذاب؛ يقول الحق سبحانه: ï´؟ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا ï´¾ [النساء: 147].
الوقفة الثانية: في عبادة الله وحده:
في منِّ الله عز وجل على قريش بفضل الرحلتين، وما يتبعهما من أمن وسلام، أمرٌ لهم بعبادة رب البيت، عبادة صافية نقية لا يشوبها إشراك، ولا تختلط بوثنية ولا بضلال جاهلي، فإضافة البيت إليه سبحانه بيان لإفراد هذا الرب بالعبودية وحده، فإرشاد قريش إلى عبادة "رب البيت"، في إشارة ودلالة على تعلقهم بالبيت، وفيه أيضًا تبيين للنعم المرتبطة بمجاورتهم للبيت، فالحق سبحانه "مَيز نفسه عن أوثانهم بإضافة البيت إليه أو فكره؛ تذكيرًا لنعمه لشرفهم بالبيت على سائر العرب"[14]، كما أن تخصيص لفظ الرب بالذكر، "قد يكون فيه إشارة إلى ما قالوه لأبرهة: "إن للبيت ربًّا سيحفظه"، ولم يعولوا في ذلك على الأصنام، فلزمهم لإقرارهم ألا يعبدوا سواه، كأنه يقول: لما عوَّلتم في الحفظ عليَّ، فاصرفوا العبادة إليَّ"[15]، فكيف يعقل أن يستغيث العبد بربه في مصابه، ثم بعد أن يتحصل على مراده، ينسى من أغاثه، لذلك فأمرهم بالعبادة لرب البيت، هو في الحقيقة تذكير بالنعم التي تستوجب ذلك الإفراد.
كما أن إضافة الرب إلى البيت: "فليعبدوا رب هذا البيت"، بدل أن يقال: فليعبدوا الله؛ إشارة إلى استحقاق الله بالعبودية دون شريك؛ لأن لفظ الرب يومئ إلى ذلك، كما أن هذه الإضافة إلى البيت دون أن يقال: فليعبدوا ربهم، إيماء بأن أصل نعمة الإيلاف عليهم هو البيت، فهو سبب رفعة شأنهم بين العرب[16]، فشرفهم ومكانتهم إنما استمدوها من وجود الكعبة المشرفة بين ظهرانيهم؛ يقول الحق سبحانه هنا: "فليعبدوا رب هذا البيت"، قيل في تفسيرها: "فليألفوا عبادته كما ألفوا الرحلتين، أو فليعبدوه لإنعامه عليهم بالرحلتين، أو فليعبدوه؛ لأنه ï´؟ أَطْعَمَهُم مِن الجوع ï´¾ الآية، أو فليتركوا الرحلتين لعبادة رب هذا البيت، فإنه يطعمهم من جوع، ويؤمنهم من خوف"[17].
الوقفة الثالثة: في مُوجِبات النعم وربطها بأسبابها:
ربط سبحانه في الآيات - موضوعِ الدرس - بين النعم وموجباتها، في قوله سبحانه وتعالى: "فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف"، ففي الآية بيان لموجب عبادة الله وحده، وحقه على عباده جميعًا، فربط بين السبب والمسبب؛ (العبادة = الإطعام من جوع والأمن من خوف)، قال صاحب أضواء البيان: "ففيه بيان لموجب عبادة الله تعالى وحده، وحقه في ذلك على عباده جميعًا، وليس خاصًّا بقريش"[18].
عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار، فقال لي: (يا معاذ، أتدري ما حق الله على العباد، وما حق العباد على الله، قلت: الله ورسوله أعلم، قال: حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، وحق العباد على الله ألا يعذب من لا يشرك به شيئًا، قلت: يا رسول الله، أفلا أبشِّر الناس؟ قال: لا تبشِّرهم فيتكلوا)[19]، فمقتضى العبادة يقضي نفي ارتباطها بالشرك، لكن هنا بيَّنها النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (ولا يشركوا به شيئًا) تأكيدًا، وإلا فمقتضى العبودية الإخلاص دون الشرك، لذلك كان التأكيد في الخطاب القرآني لقريش ببيان موجبات العبودية ألا وهو الإنعام، فنعمة الإطعام تقتضي عبادة الله سبحانه، وفيه أن البهيمة تطيع من يعلفها، ولا يليق بالإنسان أن يكون دون الأنعام[20]، كما أن المن بالنعمة على قريش له معان ودلالات عظيمة، فقد أوردت بعض كتب التفسير أن الواحد منهم إذا أصابته مخمصة (مجاعة)، جَرَى هُوَ وَعِيَالُهُ إِلَى مَوْضِعٍ مَعْرُوفٍ، فَضَرَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ خِبَاءً فَمَاتُوا[21]، فلم يكونوا ممن يطلب أو يجري في الطلب، بل كانوا مستعففين، فجاءت نعمة إطعامهم متضمنة أيضًا رفعتهم وعزتهم، حتى صاروا أكثر مالًا وعزًّا.
ووجه المنة بالأمن أن فقده سببٌ موجب للفتنة وللهزيمة والاضطراب، وأن تمحيص الحق في فهم آثاره وتبيينه مختص بالعلماء بما أودعوا به من علم: ï´؟ وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ï´¾ [النساء: 83].
إذًا هذه النعم تتطلب من العبد حقًّا أن يعبد الله عز وجل، ولا يشرك به شيئًا، وأن يشكره على نعمه، ولأن فيها مضاعفة الأجر: ï´؟ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ï´¾ [إبراهيم: 7].
الوقفة الرابعة: في بيان الجمع بين نعمتين عظيمتين: "الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف":
جمع الله عز وجل بين إطعامهم من جوع وأمنهم من خوف؛ جاء في تفسير ابن أبي حاتم: "الذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ؛ يَعْنِي قُرَيْشًا أهل مكة بدعوة إِبْرَاهِيمَ؛ حَيْثُ قَالَ: ï´؟ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثمَرَاتِ ï´¾، وَآمَنَهُم مِنْ خَوْفٍ؛ حَيْثُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ: ï´؟ رَب اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا ï´¾"[22]، فكانوا بفضل الحق سبحانه يخرجون في تجارته وينعمون فيها بالأمن والأمان في الوقت الذي لا يأمن غيرهم من العرب على تجارتهم، فإذا خرجوا أُغير عليهم[23].
وقيل في الإطعام وجوه:
• شق عليهم الذهاب إلى اليمن والشام في الشتاء والصيف لطلب الرزق، فقذف الله تعالى في قلوب الحبشة أن حملوا الطعام إلى مكة حتى خرجوا إليهم بالإبل والحمر، واشتروا طعامهم من جدة على مسيرة ليلتين، وتتابع ذلك، فكفاهم الله مؤنة الرحلتين.
• أنهم لما كذبوا محمدًا صلى الله عليه وسلم دعا عليهم، فقال: اللهم اجعلها عليهم سنين كسنين يوسف، فاشتد عليهم القحط وأصابهم الجهد، فقالوا: يا محمد ادع الله فإنا مؤمنون، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخصب أهل مكة، فذلك قوله أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ[24].
وفي الأمن أيضًا وجوه، منها: "قصة أصحاب الفيل، أو تعرُّض أهل النواحي لهم، وكانوا بعد وقعة أصحاب الفيل يعظِّمونهم ولا يتعرضون لهم، وقال الضحاك والربيع: آمنهم من خوف الجذام، وقيل: من أن تكون الخلافة في غيرهم وفيه تكلُّف، وقيل: أطعمهم من جوع الجهل بطعام الإسلام والوحي، وآمنهم من خوف الضلال ببيان الهدى"[25]، وقيل: "أهلك عز وجل من قصدهم؛ ليعتبر الناس، ولا يجترئ عليهم أحدٌ، فيتم لهم الأمن في رحلتهم"[26].
فنعمتا الإطعام والأمن، نعمتان عظيمتان، لا يمكن تصوُّر الحياة بدونهما، كما أن في ذكرهما معًا والجمع بينهما، بيان بأهميتهما جميعًا، فقد يستطيع الإنسان أن يعيش ويطعم بلا أمان، لكن حياته غير كاملة، فلا بد من اجتماع النعمتين؛ ليحصل كمال العيش الهنيء، فلا عيش مع الجوع ولا عيش مع الخوف، وتكمل النعم باجتماعهما، لهذا جاء في الحديث:"مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَمَا حِيزَتْ لَهُ الدُنْيَا"[27].
وقد اهتم الإسلام بالأمن، وبيَّن الحق في كتابه أولويته في دعاء ابراهيم عليه السلام الذي قدم الأمن على الرزق: ï´؟ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ ï´¾ [البقرة: 126]؛ لأن الأمن يقابل الاطمئنان على المال، وبالتالي التجارة والتبايع، وهو يفضي إلى الإطعام، فحاجة المجتمع إليه مسيسة وضرورية، فما فائدة المال مع غياب الأمن والطمأنينة، لهذا أصبحت الدول تهتم بهذا الجانب، وأصبحنا نسمع عن "الأمن الغذائي"، وتشجيع الاستثمار في ظروف آمنة، كل هذه المعطيات تتحدث عن حاجة الناس إلى الأمن الذي تحقق لقريش في رحلاتهم وتجارتهم، لكن الأهم في الأمن أن يكون في الدنيا والآخرة، أن يأمن العبد بالخوف من الله تعالى في الدنيا، فيأمن مكره في الآخرة؛ يقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه: "وعزتي وجلالي، لا أجمع على عبدي خوفين وأمنين، إذا خافني في الدنيا أمَّنته يوم القيامة، وإذا أمنني في الدنيا أخفته يوم القيامة"[28].
إذًا ما الواجب تجاه هذه النعمة العظيمة؟ الواجب هو الشكر لله تعالى بالقيام بطاعته وامتثال أوامره واجتناب نواهيه، فإذا تجاسر الناس على المعاصي فالخطر عظيم؛ لأن الله عز وجل ضرب لنا مثل القرية التي كانت مطمئنة وآمنة، لكنها تجاسرت على معصية الله وعدم شكر نعمة الأمن التي تعيش فيها، قال الحق سبحانه: ï´؟ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ï´¾ [النحل: 112].
فسَّر بعض المفسرين هذا التعريض في الآية، بما حل بأهل مكة من الجُوع الذِي عُذبُوا بِهِ بِمَكةَ قَبْلَ عَذَابِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ، ثُم عَذبَهُمُ اللهُ بِالسيْفِ يَوْمَ بَدْرٍ[29].
من الجوع الذي أصابهم أيام القحط بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم، والشاهد في الآية: "فأذاقها الله لباس الجوع والخوف"، النعمتين المذكورتين في السورة، جعل الله عقابه لمن كفر بهما.
الوقفة الخامسة: دروس وعبر من السورة:
أولًا: نعم الله عز وجل على عباده كثيرة وعظيمة: ï´؟ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ï´¾ [النحل: 18]، ومن أعظمها: الإيمان والأمن، ودوام هذه النعم وبقاؤها بشكر المنعم، وبإخلاص العبادة لله عز وجل واجتناب نهيه؛ قال سبحانه: ï´؟ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ï´¾ [النور: 55].
ثانيًا: بالأمن والإيمان تتوحد النفوس وتزدهر الحياة ويسعد الإنسان، وتكثر الأرزاق، وتتوحد الكلمة، وتقام الشعائر بطمأنينة، أما إذا اختل ركن من هذه الأركان (الأمن - الإيمان)، تنقطع سبل الاطمئنان، وتنقطع صلة الأرحام، وتضيع الشعائر.
ثالثًا: نعمة الأمن تتحقق في الأمة بالخوف والخشية، ومراقبة الله عز وجل، وتطبيق أحكامه، وتجنب الظلم بكل صوره، فأداء الأمانة وأداء المسؤولية على وجهها الأكمل من باب: "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته"، وأداء حق الله "الزكاة"، وأداء حقوق الناس "الميراث"، وحسن الجوار وعدم إذاية الجار والأقارب، كلها تأتي بالأمن وترفع غضب الله عز وجل.
رابعًا: أن تقديم الإطعام على الأمن، لا يعني أولوية الأول، بل سياقه الامتنان للحق سبحانه؛ لأن بالأمن يتحقق الرخاء في المجتمع، ويحصل الرواج الاقتصادي، ويتشجع الاستثمار الذي يفتح بابًا للعمل للشباب ومسايرة الحياة بمنهج الإعمار الذي أراده الحق سبحانه لهذه الأمة: ï´؟ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا ï´¾ [هود: 61]؛ أي: جعلكم عمَّارها وسكَّانها، وفي الحديث: "إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة[30]، فإن استطاع ألا يقوم حتى يغرسها، فليغرسها"[31].
أسأل الله المولى سبحانه أن يجعل بلاد المسلمين آمنة مطمئنة والحمد لله رب العالمين.
[1] مَكيةٌ، فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ، وَمَدَنِيةٌ فِي قَوْلِ الضحاكِ وَالْكَلْبِي؛ انظر تفسير الجامع لأحكام القرآن؛ أبو عبدالله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري الخزرجي شمس الدين القرطبي (المتوفى: 671هـ)؛ تحقيق: أحمد البردوني وإبراهيم أطفيش، دار الكتب المصرية - القاهرة، الطبعة: الثانية، 1384هـ - 1964 م.[14] تفسير القرآن؛ ابن عبدالسلام، مرجع سابق.
[20] غرائب القرآن ورغائب الفرقان، مرجع سابق.
[21] انظر الجامع لأحكام القرآن؛ القرطبي، الآية، مرجع سابق.
[22] تفسير القرآن العظيم؛ ابن ابي حاتم، مرجع سابق.
[23] انظر تفسير القرآن العظيم؛ ابن أبي حاتم، مرجع سابق.
[24] غرائب القرآن ورغائب الفرقان، مرجع سابق.
[25] غرائب القرآن ورغائب الفرقان، مرجع سابق.
[30] الفسيلة: نخلة صغيرة.
[31] مسند أحمد بن حنبل، ج3، ص191.
,rthj jHlgdm lu r,gi juhgn: ﴿ hg~Q`Ad HQ'XuQlQiElX lAkX [E,uS ,QNlQkQiElX oQ,XtS ﴿ HQ'XuQlQiElX lu lAkX hg~Q`Ad jHlgdm juhg[ juhgn: [E,uS oQ,XtS ,QNlQkQiElX ,rthj