القاعدة العشرون: (وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ)
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبدالله، وعلى وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: فهذا حديث متجدد عن قاعدة
|
|
15-01-2023
|
|
القاعدة العشرون: (وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ)
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبدالله، وعلى وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فهذا حديث متجدد عن قاعدة من القواعد المحكمة في أبواب العدل والجزاء، ولتدبرها أثرٌ في فهم المؤمن لما يراه أو يقرأه في كتب التاريخ، أو كتاب الواقع من تقلبات الزمن والدهر بأهله، سواء على مستوى الأفراد أم الجماعات، إنها القاعدة القرآنية التي دل عليها قوله تعالى: {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} [الحج: 18].
ولعل إيراد الآية الكاملة التي ذكرت فيها هذه القاعدة مما يجلي لنا أبرز صور الإهانة التي تنزل الإنسان من عليائه، يقول سبحانه وتعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج: 18].
فهل أدركتَ معي ـ أخي ـ وأنت تستمع لهذه الآية الكريمة أن أعلى وأبهى وأجلى صور كرامة العبد أن يوحّد ربه، وأن يفرده بالعبادة، وأن يترجم ذلك بالسجود لربه، والتذللِ بين يدي مولاه، وخالقِه ورازقه، ومَنْ أمرُ سعادتِه ونجاته وفلاحِه بيده سبحانه وتعالى، يفعلُ ذلك اعترافاً بحق الله، ورجاءً لفضله، وخوفاً من عقابه؟
وهل أدركتَ ـ أيضاً ـ أن غاية الهوان والذلّ، والسفول والضعة أن يستنكف العبد عن السجود لربه، أو يشرك مع خالقه إلهاً آخر؟! وتكون الجبال الصم، والشجر، والدواب البُهمُ، خيراً منه حين سجدت لخالقها ومعبودها الحق؟
أيها الإخوة:
وإذا تبيّن هذا فإن هذه القاعدة القرآنية الكريمة: {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} جاءت في سياق بيان من هم الذين يستحقون العذاب؟ إنهم الذين أذلوا أنفسهم بالإشراك بربهم، فأذلهم الله بالعذاب، كما قال سبحانه وتعالى: {وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ} فلا يجدون حينها من يكرمهم بالنصر، أو بالشفاعة
وتأمل ـ أيها المبارك ـ كيف جاء التعبير عن هذا العذاب بقوله: {ومن يهن الله} ولم يأت بـ(ومن يعذل الله) وذلك ـ والله أعلم ـ "لأن الإهانة إذلالٌ وتحقيرٌ وخزيٌ، وذلك قدرٌ زائدٌ على ألم العذاب، فقد يعذب الرجل الكريم ولا يهان" (1).
ثم تأمل كيف جاء التعبير عن ضد ذلك بقوله: (فما له من مكرم) فإن لفظ "الكرم لفظ جامع للمحاسن والمحامد، لا يراد به مجرد الإعطاء، بل الإعطاء من تمام معناه، فإن الإحسان إلى الغير تمام المحاسن، والكرم كثرة الخير ويسرته،... والشيء الحسن المحمود يوصف بالكرم، قال تعالى: {أولم يروا إلى الأرض كم أنبتنا فيها من كل زوج كريم} [الشعراء: 7]، قال ابن قتيبة: من كل جنس حسن، والقرآن قد دل على أن الناس فيهم كريم على الله يكرمه، وفيهم من يهينه، قال تعالى: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} [الحجرات:13]، وقال تعالى: {ومن يهن الله فما له من مكرم إن الله يفعل ما يشاء} [الحج:18] (2)
أيها القارئ الكريم:
وإذا كان الشرك بالله هو أعظم صورةٍ يذل بها العبد نفسه، ويدسها في دركات الهوان، فإن ثمةَ صوراً أخرى ـ وإن كانت دون الشرك ـ إلا أن أثرها في هوان العبد وذله ظاهر بيّن: إنه ذل المعصية، وهوان العبد بسببها، يقول ابن القيم: موضحاًً شيئاً من معاني هذه القاعدة القرآنية المحكمة {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} وهو يتحدث عن شيء من شؤم المعاصي، وآثارها السيئة:
"ومنها: أن المعصية سببٌ لهوان العبد على ربه وسقوطه من عينه، قال الحسن البصري: هانوا عليه فعصوه ولو عزوا عليه لعصمهم!.
وإذا هان العبد على الله لم يكرمه أحد، كما قال الله تعالى: {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ}! وإنْ عَظّمهم الناس في الظاهر لحاجتهم إليهم، أو خوفاً من شرهم، فهم في قلوبهم أحقر شيء وأهونه...
إلى أن قال: وهو يتحدث عن بعض عقوبات المعاصي:
"أن يرفع الله عز وجل مهابته من قلوب الخلق، ويهون عليهم، ويستخفون به، كما هان عليه أمر الله، واستخف به، فعلى قدر محبة العبد لله يحبه الناس، وعلى قدر خوفه من الله يخافه الناس، وعلى قدر تعظيمه الله وحرماته يعظم الناس حرماته! وكيف ينتهك عبدٌ حرمات الله ويطمع أن لا ينهك الناس حرماته؟! أم كيف يهون عليه حق الله ولا يهونه الله على الناس؟! أم كيف يستخف بمعاصي الله ولا يستخف به الخلق؟!
وقد أشار سبحانه إلى هذا ـ في كتابه ـ عند ذكر عقوبات الذنوب، وأنه أركس أربابها بما كسبوا، وغطي على قلوبهم، وطبع عليها بذنوبهم، وأنه نسيهم كما نسوه، وأهانهم كما أهانوا دينه، وضيعهم كما ضيعوا أمره، ولهذا قال تعالى ـ في آية سجود المخلوقات له ـ: {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} فإنهم لما هان عليهم السجود له، واستخفوا به، ولم يفعلوه أهانهم، فلم يكن لهم من مكرم بعد أن أهانهم، ومن ذا يكرم من أهانه الله أو يهن من أكرم... إلى أن قال:: ومن عقوباتها: أنها تسلب صاحبها أسماء المدح والشرف، وتكسوه أسماء الذم والصغار، فتسلبه اسم المؤمن والبر والمحسن والمتقي والمطيع... ونحوها، وتكسوه اسم الفاجر والعاصي والمخالف والمسيء...، وأمثالها فهذه أسماء الفسوق وبئس الاسم الفسوق بعد الإيمان التي توجب غضب الديان، ودخول النيران، وعيش الخزي والهوان، وتلك أسماء توجب رضى الرحمان، ودخول الجنان، وتوجب شرف المتسمي بها على سائر أنواع الإنسان، فلو لم يكن في عقوبة المعصية إلا استحقاق تلك الأسماء وموجباتها لكان في العقل ناهٍ عنها، ولو لم يكن في ثواب الطاعة إلا الفوز بتلك الأسماء وموجباتها؛ لكان في العقل أمرٌ بها ولكن لا مانع لما أعطى الله، ولا معطي لما منع، ولا مقرب لمن باعد، ولا مبعد لمن قرب، ومن يهن الله فماله من مكرم، إن الله يفعل ما يشاء"(3) انتهى كلامه.
معشر القراء الكرام:
وفي كلمة ابن القيم الآنفة: "ومن ذا يكرم من أهانه الله، أو يهنْ من أكرم؟" إشارة إلى معنى يفهم من هذه القاعدة القرآنية المحكمة: {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} وهو أن من أكرمه ربه بطاعته، والانقيادِ لشرعه ظاهراً وباطناً، فهو الأعز الأكرم، وإن خاله المنافقون أو الكفار الأمر على خلاف ذلك، كما قال من طمس الله على بصائرهم من المنافقين وأشباههم: {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ}[المنافقون: 8] إي والله.. لا يعلمون من هم أهل العزة حقاً!
ألم يقل الله: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِين} [آل عمران: 139]؟
وكيف يشعر المؤمن بالهوان وسنده أعلى؟! ومنهجه أعلى؟! ودوره أعلى؟ وقدوته ج أعلى وأسمى؟
فهل يعي ويدرك أهل الإيمان أنهم الأعزة حقاً متى ما قاموا بما أوجب الله عليهم؟
وأختم حديثي عن هذه القاعدة القرآنية المحكمة {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ}،بكلمة رائعة لشيخ الإسلام ابن تيمية: حيث يقول:
"الكرامة في لزوم الاستقامة، واللهُ تعالى لم يكرم عبده بكرامة أعظم من موافقته فيما يحبه ويرضاه وهو طاعته وطاعة رسوله وموالاة أوليائه ومعاداة أعدائه وهؤلاء هم أولياء الله الذين قال الله فيهم: {ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون}" (4)، أسأل الله تعالى أن يجعلني وإياكم منهم، وأن يكرمنا وإياكم بطاعته، ولا يذلنا ويهيننا بمعصيته، وإلى لقاء جديد بإذن الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
(1) مجموع الفتاوى 15/367.
(2) مجموع الفتاوى 16/295.
(3) الجواب الكافي: (38 – 52) باختصار.
(4) التحفة العراقية في الأعمال القلبية: (12).
الدكتور عمر عبدالله المقبل
hgrhu]m hguav,k: (,QlQkX dEiAkA hggQ~iE tQlQh gQiE lAkX lE;XvAlS) (,QgQ,X lE;XvAlS hggQ~iQ hguav,k ,QgQ,X
hgrhu]m hguav,k: (,QlQkX dEiAkA hggQ~iE tQlQh gQiE lAkX lE;XvAlS) (,QgQ,X gQiE lE;XvAlS lE;XvAlS) lAkX hggQ~iQ hguav,k hguav,k: hgrhu]m dEiAkA tQlQh ,QgQ,X
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|
الأعضاء الذين قالوا شكراً لـ سمو المشاعر على المشاركة المفيدة:
|
|
16-01-2023
|
#2
|
16-01-2023
|
#3
|
جَزآكـ الله جَنةٌ عَرضُهآ آلسَموآتَ وَ الآرضْ
بآرَكـَ الله فيكـ وَفِي مِيزآنَ حَسنَآتكـ ...
آسْآل الله آنْ يَزّينَ حَيآتُكـ بـِ آلفِعْلَ آلرَشيدْ
وَجَعَلَ آلفرْدَوسَ مَقرّكـ بَعْدَ عمرٌ مَديدْ ...
دمْتَ بـِ طآعَة لله ..
|
|
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|
16-01-2023
|
#4
|
جُزاكّ الله خُير علىّ مُـا قُدمتّ
ورزُقكّ بُكُل حَرف خّطتهَ أناملكّ جُزيل الحُسناتّ
|
|
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|
16-01-2023
|
#5
|
-
أثابك الله الأجر ..
وَ أسعد قلبك في الدنيا وَ الأخرة
دُمت بحفظ الرحمن.
|
|
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|
18-01-2023
|
#6
|
.،
جزاك الله خير
وجعله في موازين حسناتك
وانارالله دربك بالايمان
ماننحرم من جديدك المميز
امنياتي لك بدوام التألق والابداع
دمـت بحفظ الله ورعايته
|
|
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|
19-01-2023
|
#7
|
|
|
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|
07-02-2023
|
#8
|
_
،
جَزَاكَ اَللَّهُ اَلْجَنَّةَ وُوَالُدِيكْ
سَلَّمَتْ يَدَاكَ وَنَفَّعَنَا اَللَّهِ بِمَا طَرَحَتْ
- لَا عَدِمْنَا هَذَا اَلنَّقَاءِ . . :-ff1 (8):
~
|
|
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|
20-03-2023
|
#9
|
جزاك الله كل خير
وبارك الله فيك
|
|
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|
03-10-2023
|
#10
|
جزاك الله خير الجزاء
وسلمت أناملك على الذوق الجميل
ما ننحرم من فيض عطائك وتالقك
ننتظر كل جديد يفيض به قلمك الراقي
لك تحياتي وفائق شكري
ولك كل الاحترام
|
|
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|
الكلمات الدلالية (Tags)
|
(وَلَوْ, لَهُ, مُكْرِمٍ, مُكْرِمٍ), مِنْ, اللَّهَ, العشرون, العشرون:, القاعدة, يُهِنِ, فَمَا, وَلَوْ |
تعليمات المشاركة
|
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك
كود HTML معطلة
|
|
|
| | | | | | | | | |