وكان صلى الله عليه وسلم يعظ أصحابه، ولا يكثر عليهم في ذلك.
قال ابن مسعود: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولنا بالموعظة في الأيام، كراهة السآمة علينا"[1].
وقد كانت مواعظه مؤثرة تأخذ بالقلوب، وتحيي النفوس.
فعن العرباض بن سارية قال: "صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، ثم أقبل علينا، فوعظنا موعظة بليغة، ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب.."[2].
ويصف حنظلة أثر هذه المواعظ فيقول: "نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرنا بالنار والجنة، حتى كأنا رأي عين.."[3].
وهكذا تكون المواعظ تأكيدًا للبيان، وتذكيرًا به، وحثًا على الاستقامة وتوثيقًا للصلة بين المؤمنين
خطب النبي صلى الله عليه وسلم:
تعد الخطابة في مقدمة فنون القول تأثيرًا وتبليغًا، واستجاشة للعواطف، واستنهاضًا للهمم.
وقد جعلها الإسلام شعيرة ثابتة متكررة في أيام الجمعة والعيدين، وكذا في صلاة الاستسقاء.
وكثيرًا ما كان النبي يجمع أصحابه عند الملمات ليخطب فيهم..
وتمتاز الخطابة بانفعال المتكلم، إذ ينبغي أن يكون متأثرًا بما يقول، حتى يستطيع أن ينقل ذلك إلى السامع.
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم سيد الخطباء والبلغاء.
يقول جابر بن عبدالله: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمرت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه، حتى كأنه منذر جيش. يقول: صبحكم ومساكم.."[
وينقل لنا ابن عمر رضي الله عنه، جانبًا من خطبة لرسول الله فكان منها: "يطوي الله عز وجل السماوات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليمنى، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأرضين بشماله، ثم يقول: أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟..".
قال ابن عمر: حتى نظرت إلى المنبر يتحرك من أسفل شيء منه، حتى إني لأقول: أساقط هو برسول الله صلى الله عليه وسلم؟[5].
وفي خطبة أخرى قال النعمان بن بشير: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب يقول: "أنذركم النار.." حتى لو أن رجلًا كان بالسوق لسمعه من مقامي هذا. قال: حتى وقعت خميصة كانت على عاتقه عند رجليه"[6].
وهذه أم محصن تقول: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب في حجة الوداع، وعليه برد قد التفع به من تحت إبطه، قالت: فأنا أنظر إلى عضلة عضده ترتج.."[7].
هكذا كانت خطبته صلى الله عليه وسلم وتلك هي طريقته وسنته فيها[8].
ولقد كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم طاقة وقدرة على الوقوف طويلًا في خطبته، فربما صلى العصر فقام يخطب فاستمر في خطبته حتى غابت الشمس[9].
وقد بدأ يومًا خطبته بعد صلاة الفجر وما زال.. حتى غربت الشمس.
أخرج أحمد في مسنده ومسلم في صحيحه عن أبي زيد، عمرو بن أخطب قال: "صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجر، وصعد المنبر، فخطبنا حتى حضرت الظهر، فنزل فصلى، ثم صعد المنبر فخطبنا حتى حضرت العصر، ثم نزل فصلى، ثم صعد المنبر فخطبنا حتى غربت الشمس، فأخبرنا بما كان، وبما هو كائن، فأعلمنا أحفظنا"[10].
ولعل هذه الخطبة هي التي تحدث عنها حذيفة بن اليمان رضي الله عنه حين قال: "لقد خطبنا النبي خطبة ما ترك فيها شيئًا إلى قيام الساعة إلا ذكره، علمه من علمه، وجهله من جهله، وإن كنت لأرى الشيء قد نسيت، فأعرفه كما يعرف الرجل الرجل إذا غاب عنه فرآه فعرفه"[11].
أجل، كانت الخطبة إحدى وسائل التبليغ والبيان، الذي كان مهمة الرسول الكريم، فعن بريدة قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا فنادى ثلاث مرات، فقال: "يا أيها الناس، أتدرون ما مثلي ومثلكم؟ مثل قوم خافوا عدوًا يأتيهم، فبعثوا رجلًا يتراءى لهم، فبينا هو كذلك أبصر العدو، وأقبل لينذرهم، وخشي أن يدركه العدو قبل أن ينذر قومه، فأهوى بثوبه: أيُّها الناس، أتيتم، أيها الناس أتيتم" ثلاث مرات[12].
[1] أخرجه البخاري برقم (68).
[2] أخرجه أبو داود برقم (4607) والترمذي برقم (2676)، وابن ماجه برقم (42) والدارمي برقم (95).
[3] أخرجه مسلم برقم (2750).
[4] أخرجه مسلم برقم (867).
[5] متفق عليه (خ 7412، 2788) واللفظ لمسلم.
[6] أخرجه الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد، في خطبة الجمعة، وقال: رواه أحمد، ورجاله ورجال الصحيح.
[7] أخرجه الترمذي برقم (1706).
[8] تلك هي سنته صلى الله عليه وسلم، أما عندما يتحول خطباء الجمعة وغيرها في معظم مساجد المسلمين، وفي كل أقطارهم، إلى قراء صحف، يقرؤون ما كتبوا أو ما نقلوا من كتابات غيرهم، فإن هذه الخطب تولد ميتة لا حياة فيها، فالخطيب لم يتفاعل مع الفكرة التي يطرحها، بل ربما حتى لم يكتبها، بل صورها، أو كتبت له.. فأنى لهذه الخطب أن تتجاوز فم قائلها؟!!.
[9] أخرجه الإمام أحمد من حديث أبي سعيد الخدري (الفتح الرباني 21/ 268).
[10] أخرجه مسلم برقم (892)، والإمام أحمد (الفتح الرباني 21/ 272).
[11] متفق عليه (خ 6604، م 2891).
[12] مجمع الزوائد، في خطبة الجمعة. وقال: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح.
أ. صالح بن أحمد الشامي
lk l,hu/ hgkfd ,o'fi l, hgkfn
lk l,hu/ hgkfd ,o'fi l, l,hu/ hgkfn ,o'fi