الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه، صلى الله وسلم عليه
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا
وحبيبنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
أما بعد، فيا عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى والبعدِ عن الإسراف والتبذير، والإسرافُ:
هو مجاوزةُ الحدِّ أيًّا كان، وقال الراغب: (السَّرَفُ: تجاوزُ الحد في كلِّ فعلٍ يفعله الإنسان، وإن كان ذلك في الإنفاق أشهر)
المفردات للراغب الأصفهاني ص 407، وأما التبذيرُ فقد قال الشافعي عنه: (التبذير إنفاقُ المال في غير حقِّه)
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 10 / 247.
عباد الله: والإسراف يشمل أمورًا عدة في حياة البشر، ومن ذلك: الإسراف في الأموال وسوء التصرف فيها، وهو نوعان:
الأول: إسرافٌ في النفقةِ والإنفاقِ، وهو: التبذيرُ المنهيُّ عنه ومجاوزةُ الحد حتى في الصدقة، قال تعالى:
﴿ وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا ﴾ [الإسراء: 26، 27]
وقال عز وجل: ﴿ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ﴾ [الأنعام: 141]
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لمن أراد الصدقةَ عمومًا أو الوقفَ لينتفعَ به في الدار الآخرة:
((الثُّلُثُ، والثلثُ كثير، لأَنْ تذَرَ ورثتك أغنياءَ خيرٌ من أن تذَرَهم عالةً يَتَكَفَّفُونَ الناس))؛ صحيح البخاري الصفحة أو الرقم: 3936.
والنوع الثاني: الإسرافُ في الاستهلاك في الأكل والشرب وضرورياتِ الحياة ومباحاتِها، مع أنَّ اللهَ أباحَ لعباده الطيباتِ
والحلالَ من المأكل والمشرب، ولكنه نهاهم عن الإسراف وتجاوزِ الحد؛ لما في ذلك من الضرر عليهم في أبدانهم ودينهم ودنياهم.
قال تعالى: ﴿ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ﴾ [الأعراف: 31]، وقال عز وجل عن عباد الرحمن الذين عدَّد صفاتِهم:
﴿ وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا ﴾ [الفرقان: 67]
وقال تعالى: ﴿ وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا ﴾ [الإسراء: 29]
وقال صلى الله عليه وسلم: ((ما ملأَ آدميٌّ وعاءً شرًّا مِن بطنٍ، بحسبِ ابنِ آدمَ أُكُلاتٌ يُقمنَ صُلبَهُ، فإن كانَ لا محالةَ
فثُلثٌ لطعامِهِ وثُلثٌ لشرابِهِ وثُلثٌ لنفَسِهِ)) صحيح الترمذي الصفحة أو الرقم: 2380.
عباد الله: لقد نظَّم الشَّرعُ الحكيمُ أمورَ الناسِ كلَّها، وجاء بما فيه مَصلحتُهم، وأحَلَّ لهم الطَّيِّباتِ وحرَّم عليهم الخبائثَ
وأباح لهم التَّمتُّعَ بالحياةِ ومَلذَّاتِها، لكنْ دونَ إفراطٍ أو نسيانٍ لحقوقِ اللهِ والعبادِ، وقدَّمَ الإسلامُ للبشرية منهجًا متكاملًا وتصورًا واضحًا
عن طبيعة التَّصرُّفِ في جميع شؤون الحياة، وبيَّنَ بشكلٍ واضحٍ حدودَ الحلال والحرام فيها، ونهى عن الإسراف في شتى صوره.
وإنَّ أبشعَ صور الإسراف عندما يكونُ في معصية الله والتعدي على حدوده، فهو محرمٌ بالإجماع، وأما الإنفاقُ في المباحات فيجبُ الالتزام
بالعدل والاستقامة والتوسطِ فيها؛ حتى لا يتحولَ الإنفاقُ على المأكل والمشرب والملبس إلى البذخ والتفاخر والتعالي على الناس.
عباد الله: ومن صور الإسراف أنْ تُقامَ الولائمُ العظيمةُ ويُدْعى إليها الأغنياءُ، ويُحرَمُ منها الفقراء، وقد يكون ما يُلقى منها
في الفضلات يُشبِعُ خَلْقًا كثيرًا من أهل الحاجة، وأما المبالغة في بذل المال طاعةً لله وفي سبيله، فلا يكونُ إسرافًا
وإن كان هذا البذلُ مشروطًا بأنْ لا يُضيِّعَ المُنفقُ منْ يعول، ويذَرَ ذريتَه عالةً على الناس، قال صلى الله عليه وسلم:
((أفضلُ الصدقةِ جَهْدُ المُقِلِّ، وابدأْ بِمَنْ تَعولُ)).
أيها المسلمون: لقد صرَّحَ القرآنُ بأنَّ من طبيعة الإنسان السَّرفَ عند الجِدَة، وتجاوزَ حدود القصدِ والاعتدالِ
قال الله تعالى: ﴿ كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى ﴾ [العلق: 6، 7]
وقال تعالى: ﴿ وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ ﴾ [الشورى: 27].
ولتهذيب الإنسان وتربيته أمرَ الله تعالى بالقصد في الأمور كلِّها حتى في أمور العبادات؛ كيلا يملَّها العبد
قال عليه الصلاة والسلام: ((وَالْقَصْدَ الْقَصْدَ تَبْلغُوا))؛ صحيح البخاري الصفحة أو الرقم: 6463، وضدُّ القصد
السَّرَف وهو منهيٌّ عنه كما في قوله تعالى: ﴿ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ [الأنعام: 141، والأعراف: 31].
عباد الله: والإسرافُ في شراء الأطعمة وأكْلِها أو رمْيها من مواطن النهي الجلي في القرآن
قال تعالى: ﴿ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ﴾ [الأنعام: 141]
وكذا الإسراف في الملابس والمراكب والأثاث وغيرها، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((كُلوا واشرَبوا وتَصدَّقوا والْبَسوا
ما لم يخالِطْهُ إسرافٌ أو مَخيَلةٌ))؛ صحيح ابن ماجه الصفحة أو الرقم: 2920.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ﴿ يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ [الأعراف: 31].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بالآيات والذكر الحكيم، إنه تعالى جواد كريم
ملك بر رؤوف رحيم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.