خطبة : العقوبات الخفية ( 1 )
إنَّ الحمدَ لله؛ نحمدُه، ونستعينُه، ونستغفرُه، ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسِنا وسيئاتِ أعمالِنا، منْ يهدِه اللهُ فلا مضلَّ له، ومنْ يضللْ فلا هاديَ له، وأشهدُ ألا إلهَ إلا اللهُ وحدَه
|
|
06-02-2023
|
|
خطبة : العقوبات الخفية ( 1 )
إنَّ الحمدَ لله؛ نحمدُه، ونستعينُه، ونستغفرُه، ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسِنا وسيئاتِ أعمالِنا، منْ يهدِه اللهُ
فلا مضلَّ له، ومنْ يضللْ فلا هاديَ له، وأشهدُ ألا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه.
أما بعدُ:
﴿ يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ... ﴾ [النساء: 1]
أيَّها المؤمنون!
لِغايةِ العبوديةِ أوجدَ اللهُ - سبحانه - الثَّقَلين، وسخَّرَ لهم الكونَ وما حواه، قال الله تعالى-: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات: 56]
وجَعَلَ ذلك الكونَ متَّسِقًا مع تلك الغايةِ؛ قيامًا بوظيفتِها التعبديةِ، وتذكيرًا بها، ودِلالةً على استحقاق الله لها، قال الله تعالى -:
﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ ﴾ [الحج: 18].
ولتحقيقِ العبوديةِ سَاقَ - سبحانه - العبادَ بالوعدِ لمن حقَّقَها، والوعيدِ لمن أخْفَرَها، وجَعَلَ العقوباتِ زاجرًا عن مخالفةِ تلك الغايةِ
ونوّعَ تلك العقوباتِ طرائقَ قِدَدًا؛ دنيويةً وأخرويةً، حسيةً ومعنويةً، وكان أخطرَ تلك العقوباتِ العقوبةُ الخَفِيِّةُ التي لا تُرى
ولا يَشْعُرُ بها العاصي، ولا يُبْصرُ معها آثارَ ذنبِه؛ فَيَسْدُرُ في غيِّه، ولا يَلْوِي عنه حتى يُفْضيَ به إلى هُوَّةٍ سحقيةٍ مِن الهلاكِ.
قال ابنُ القَيِّمِ: " فالذنبُ لا يخلو مِن عقوبةٍ ألبتةَ، ولكنْ لِجهلِ العبدِ لا يشعُرُ بما فيه مِن العقوبةِ، لأنه بمنزلةِ السكرانِ والمخدَّرِ
والنائمِ الذي لا يشعرُ بالألمِ. فتَرَتُّبُ العقوباتِ على الذنوبِ كتَرَتُّبِ الإحراقِ على النارِ، والكَسْرِ على الانكسارِ، والغرقِ على الماءِ، وفسادِ البدنِ
على السمومِ، والأمراضِ على الأسبابِ الجالبةِ لها. وقدْ تُقارِنُ المضرَّةُ الذنبَ وقد تتأخرُ عنه، إما يسيرًا وإما مدةً
كما يتأخرُ المرضُ عن سببِه أنْ يُقارنَه. وكثيرًا ما يقعُ الغلطُ للعبدِ في هذا المقامِ ويذنبُ الذَّنْبَ فلا يَرى أثرَه عَقِبَه، ولا يدري أنه يعملُ عملَه
على التدريجِ شيئًا فشيئًا، كما تعملُ السمومُ والأشياءُ الضارةُ حَذْوَ القُذَّةِ بالقُذَّةِ. فإنْ تدارَكَ العبدُ نفسَه بالأدويةِ والاستفراغِ والحِمْيةِ
وإلا فهو صائرٌ إلى الهلاكِ، هذا إذا كان ذنْبًا واحدًا لم يَتَدَارَكْه بما يزيلُ أثرَه؛ فكيفَ بالذنْب على الذنْب كلَّ يومٍ وكلَّ ساعةٍ؟! واللهُ المستعانُ".
وقال ابنُ الجَوزيِّ: " ولَعمري، إنَّ أعظمَ العقوبةِ ألا يَدرِي بالعقوبةِ! ".
عبادَ اللهِ!
إنَّ أخطرَ عقوباتِ الذنْبِ الخَفِيِّةِ نسيانُ اللهِ عبدَه، وتَرْكُهُ دون مَدَدٍ ربانيٍّ أو ملائكيٍّ، بل يُخْلِي بينه وبين نفسِه وشيطانِه وأعوانِه، وهنالك الهلاكُ
الذي لا يُرجى معه نجاةٌ -كما قال ابنُ القيم-، قال اللهُ تعالى-: ﴿ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ ﴾ [الحشر: 19].
ومن آثار ذلك النسيانِ على العاصي - وهو مِن خَفِيِّ العقابِ - تزيينُ سوءِ عملِه في عينِه، وإمعانُه في ارتكابِ الخطايا، وإلْفَتُها، واستسهالُها
وتَفَتُّحُ أبوابِها له وتسهيلُها عليه، فيتسعُ نطاقُها، ويَخِفُّ وَقْعُ حيائِه منها لِيجاهرَ بها؛ فيزدادَ سوادُ مَن يُضِلُّهم حاملًا أوزارَهم مع وزرِه الذي أنْقَضَ ظهرَه
ويغيبُ عنه ذكرُ التوبةِ، وتنصرفُ نفسُه عن الطاعةِ، كما قال الله تعالى-: ﴿ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ ﴾ [المائدة: 49]
ومِثْلُ هذا قَلَّ أن يوفَّقَ للتوبةِ، وهو مِن عفوِ اللهِ بعيدٌ؛ وهذا –لَعَمْرُ اللهِ- عينُ الهلاكِ والخسارِ، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:
" كلُّ أمتي مُعافَى إلا المجاهرينَ، وإنَّ من المجاهرةِ أن يعملَ الرجلُ بالليلِ عملًا، ثم يُصْبِحُ وقد سترَه اللهُ عليه، فيقولُ:
يا فلانُ، عَملتُ البارحةَ كذا وكذا، وقد باتَ يسترُه ربُّه، ويُصْبِحُ يَكْشِفُ سترَ اللهِ عنه "؛ رواه البخاريُّ ومسلمٌ.
ومِن شديدِ عقابِ الذنوبِ الخفيِّ الطبعُ على القلبِ؛ فيَسْوَدُّ، ويَعمَى، ولا يبصرُ إلا ما يهوى؛ ويَغُورُ مِن قلبِه ماءُ الغيرةِ، وتَذْبُلُ فيه جذوةُ
تعظيمِ الشعائرِ والحُرُماتِ؛ فيَسْهُلُ على الشيطانِ قيادُه، ويُسِيمه مراتعَ العطبِ، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: " تُعرَضُ الفتنُ على القلوبِ كالحصيرِ
عُوُدًا عُوُدًا، فأيُّ قلبٍ أُشْرِبَها، نُكِتَ فيه نُكْتةُ سوداءُ، وأيُّ قلبٍ أَنْكَرها، نُكتَ فيه نكتةٌ بيضاءُ، حتى تصيرَ على قلبين، على أبيضَ مِثلِ الصَّفا[1]
فلا تضرُّه فتنةٌ ما دامتِ السماواتُ والأرضُ، والآخرُ أسودُ مُرْبَادًّا[2]كالكُوزِ[3]مُجَخِّيًا[4]لا يَعْرِفُ معروفًا، ولا يُنكرُ منكرًا، إلا ما أُشربَ مِن هواه "؛ رواه مسلمٌ.
أيها المسلمون!
وقسوةُ القلبِ مِن خطيرِ العقوبةِ الخفيةِ، قال مالكُ بنُ دينارٍ: " إنَّ للهِ عقوباتٍ في القلوبِ والأبدانِ: ضَنْكٍ في المعيشةِ، ووَهَنٍ في العبادةِ
وما ضُرِبَ عبدٌ بعقوبةٍ أعظمَ مِن قسوةِ القلبِ ". والقسوةُ متى حلَّتْ في القلبِ مَنَعَتُه الادكارَ والاتعاظَ؛ فلا يتأثَّرُ بالآياتِ إنْ تُلِيَتْ
ولا يتعظُ بالأحداثِ وإنْ وقعتْ عليه أو رآها عَيانًا؛ كما قال الله تعالى-: ﴿ فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ
وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُون ﴾ [الأنعام: 43]؛ فالاتعاظُ إنما يكونُ بنورِ الخشيةِ الذي ترحّلَ مِن القلبِ حين قسا، قال الله تعالى-: ﴿ سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى ﴾ [الأعلى: 10].
وغالبًا ما تكونُ قسوةُ القلبِ حاملةً على الكِبْرِ وعدمِ الانقيادِ للحقِ؛ وذاك مِن أعظمِ موانعِ الانتفاعِ بالآياتِ، كما قال الله تعالى -:
﴿ سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ﴾ [الأعراف: 146].
ومِن خَفيّ العقوبةِ أنَّ حُجُبَ الذنوبِ تُحِلُّ الوحشةَ في قلبِ العاصي؛ فيستشعرُها في علاقتِه مع ربِّه، ومع خَلْقِه، كما أنَّ حُجُبَ
الذنوبِ مغناطيسٌ يَجْذِبُ إلى القلبِ شَتاتَ المخاوفِ والأوهامِ، كما قال الله تعالى-: ﴿ إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ ﴾ [آل عمران: 175]
خوفٌ من المرضِ، أو الرزقِ، أو العدوِّ، أو المستقبلِ، بل خوفٌ لا يُعْلَمُ سببُه.
_ يُتبع ..
o'fm : hgur,fhj hgotdm ( 1 ) ohgur,fhj
o'fm : hgur,fhj hgotdm ( 1 ) hgotdm hgur,fhj ohgur,fhj
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|
الأعضاء الذين قالوا شكراً لـ - وَرد. على المشاركة المفيدة:
|
|
06-02-2023
|
#2
|
جَزاك الله خَير وجَعلهُ فِي مِيزان حَسناتك ،
يَعطيك العَافية .
|
|
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|
07-02-2023
|
#3
|
جميل ورائع ومميز ماقدمته لنا
دام لنا قلمك وعطائك الجميل والرائع والمتميز
دمت بحفظ الله
|
|
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|
07-02-2023
|
#4
|
_
،
جَزَاكَ اَللَّهُ اَلْجَنَّةَ وُوَالُدِيكْ
سَلَّمَتْ يَدَاكَ وَنَفَّعَنَا اَللَّهِ بِمَا طَرَحَتْ
- لَا عَدِمْنَا هَذَا اَلنَّقَاءِ . . :-ff1 (8):
~
|
|
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|
07-02-2023
|
#5
|
-
شُكرًا لكم وَ لجمَال حضُوركم
لقلوبكم الفرَح ..
|
|
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|
09-02-2023
|
#6
|
،
جزاك الله كل خير ،
دمت بحفظه ،”
|
|
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|
10-02-2023
|
#7
|
-
شُكرًا لكم وَ لجمَال حضُوركم
لقلوبكم الفرَح ..
|
|
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|
11-02-2023
|
#8
|
11-02-2023
|
#9
|
-
شُكرًا لكُم وَ لجمَال حضُوركم
لقلوبكم الفرَح ..
|
|
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|
12-02-2023
|
#10
|
.،
جزاك الله خير
وجعله في موازين حسناتك
وانارالله دربك بالايمان
ماننحرم من جديدك المميز
امنياتي لك بدوام التألق والابداع
دمـت بحفظ الله ورعايته
|
|
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|
تعليمات المشاركة
|
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك
كود HTML معطلة
|
|
|
المواضيع المتشابهه
|
الموضوع |
كاتب الموضوع |
المنتدى |
مشاركات |
آخر مشاركة |
الإعاقة الخفية ..!
|
غيمہّ فرٌح |
❀ ❀ الأشخاص ذوي الإعاقة ❀ ❀ |
29 |
14-02-2024 01:26 AM |
من النعم الخفية
|
- وَرد. |
۩۞۩{ انفاس القرآن الكريم وعلومه }۩۞۩ |
20 |
09-12-2023 01:34 PM |
اجراس الحزن الخفية
|
أميرة أميري |
❀ انفاس ضفاف حره ❀ |
18 |
06-08-2023 03:07 AM |
الرحمة الخفية ~
|
سهاد |
❀ انفاس ضفاف حره ❀ |
30 |
29-07-2023 04:53 PM |
التردد.. الآفة الخفية
|
- سِيمَــا. |
❀ انفاس تطوير الذآت ❀ |
14 |
29-09-2022 10:22 AM |
| | | | | | | | | |