ولقد أدى عزوف المسلمين عن الدنيا في القرون الأخيرة إلى تخلفهم وذلهم
وتأخرهم عن اللحاق بركب الحضارة، مع أن القرآن يدعوهم إلى عمارة الأرض،
وإيجاد سبل الحياة الفاضلة السعيدة في المجتمع،
فكان القرآن في وادٍ، وهم في واد آخر، وكما قال قائلهم:
طلع الدين إلى الله مستغيثاً
وقال الـعــباد قد ظلموني
يتســــمون بي وحقك
لا أعرف منهم أحداً ولا يعرفوني
إن الناظر المتفحص للتشريع القرآني يرى:
أن القرآن أباح التمتع المعتدل بطيبات الدنيا في المأكل والمشرب والملبس،
قال سبحانه: {يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين}
ســــــورة الأعراف: [الآية: 31].
وقال عز من قائل:
{قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا
خالصة يوم القيامة}
سورة الأعراف: [الآية: 32].
ويرى أن القرآن طالب بالعمل وحذر من البطالة والكسل في الدنيا، فقال سبحانه:
{وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة
فينبئكم بما كنتم تعملون}
سورة التوبة: [الآية: 105].
وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
((ما أكل أحد طعاماً قط خيراً من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده))
أخرجه البخاري عن المقدام بن معد يكرب رضي الله عنه.
وقال أيضاً: ((إن الله يكره الرجل البطال)) رواه الطبراني والبيهقي والحكيم الترمذي.
وورد عن سيدنا عمر بن الخطاب:
(إني لأكره أن أرى أحدكم سبهللا لا في عمل دنيا ولا في عمل آخرة)
ذكره الزمخشري في الكشاف أثناء تفسيره لسورة الانشراح ( 4/761 ).
وروى ابن عساكر عن أنس:
(ليس بخيركم من ترك دنياه لآخرته ولا آخرته لدنياه، حتى يصيب منهما جميعاً)
( ذكره الزمخشري في الكشاف أثناء تفسيره لسورة الانشراح ( 4/761 ).
ويرى أن الله سبحانه قرن في كثير من الآيات العمل الصالح بالإيمان، فقال:
{إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم...}سورة يونس: [الآية: 9].
وقال: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا}سورة الكهف:
ولم يجعل سبحانه العمل الصالح مقصوراً على العبادة فقط،
وإنما يشمل ذلك كل صلاح في الدنيا والآخرة، وكل ما يصلح به المرء نفسه وأسرته ومجتمعه،
إذ إن القرآن الكريم لم يمنع الاتجار والارتزاق حتى في أثناء الحج،
فقال سبحانه: {ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم}سورة البقرة: [الآية: 198].
وجعل سبحانه من أهداف الحج شهود المنافع الدينية والدنيوية فقال:
{وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق * ليشهدوا منافع لهم
ويذكروا اسم الله في أيام معلومات...}
سورة الحج: [الآيتان: 27-28].
ولقد ملك سلفنا الصالح مفاتح الدنيا، فأقاموا فيها حضارة ملأت الخافقين،
وانتشرت من سويسرا غرباً إلى الصين شرقاً، وما ذلك إلا لفهمهم العميق لسنن الله الكونية،
وتطبيقهم لشرعه القويم، حتى صارت الأرض فردوسهم الدنيوي قبل الانتقال إلى فردوسهم الأخروي.
لكن القرآن حذر من الانصراف الكلي إلى الدنيا والاغترار بها فقال سبحانه:
{اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته
ثم يهيج فتراه مصفراً ثم يكون حطاماً وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور}
سورة الحديد: [الآية: 20].
لذلك طلب القرآن من أتباعه العمل للدنيا والآخرة، وأن تكون الدنيا في يد متبعيه لا في قلوبهم،
حتى يستطيعوا إقامة الحضارة والمدنيّة الفاضلة،
ولا يقتلهم الحرص والبخل والتنافس الممقوت على الدنيا،
فإن فعلوا ذلك كانوا كالطائر ذي الجناحين الذي يسعى وبأقصى جهده لبلوغ هدفه المنشود،
ولقد وعد الله عباده المؤمنين بإيصالهم إلى هدفهم المنشود،
فقال عز من قائل:
{من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون}