28-01-2020
|
|
تحقيق التوحيد
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى به إلى سدرة المنتهى فأعطي ثلاثاً: أعطي الصلوات الخمس، وخواتيم سورة البقرة، وغُفر لمن لم يشرك بالله من أمته شيئاً المقحمات". [رواه مسلم 244].
وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقول الله عز وجل: من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها وأزيد، ومن جاء بالسيئة فجزاؤه سيئة مثلها، أو أغفر، ومن تقرب مني شبراً تقربت منه ذراعاً، ومن تقرب مني ذراعاً تقربت منه باعاً، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة، ومن لقيني بقراب الأرض خطيئة لا يشرك بي شيئاً لقيته بمثلها مغفرة". [رواه مسلم 2677 وأحمد 5/ 172].
وتنفع كلمة التوحيد لا إله إلا الله في يوم يبحث فيه عما يخلصه كما قال صلى الله عليه وسلم: "إن الله سيخلص رجلاً من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة فينشر عليه تسعة وتسعين سجلاً كل سجل مثل مد البصر ثم يقول: أتنكر من هذا شيئاً؟!. أظلمك كتبتي الحافظون؟!. فيقول: لا يا رب.
فيقول أفلك عذر؟!. فيقول: لا يا رب.
فيقول: بلى إن لك عندنا حسنة، فإنه لا ظلم عليك اليوم. فتُخرج بطاقة فيها: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
فيقول: أحضر وزنك. فيقول: يا رب، ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟!.
فقال: إنك لا تظلم.
قال: فتوضع السجلات في كفة، والبطاقة في كفة، فطاشت السجلات، وثقُلت البطاقة، فلا يثقل مع اسم الله تعالى شيء". [رواه الترمذي 2639 وأحمد 2/ 213 وابن ماجه 4300].
فتحقيق التوحيد واجتناب ما يخدشه مما يؤهل العبد بإذن الله لتحقيق هذه المنزلة.
قال ابن القيم رحمه الله: "ويعفى لأهل التوحيد المحض الذي لم يشوبوه بالشرك مالا يعفى لمن ليس كذلك، فلو لقي الموحد الذي لم يشرك بالله شيئاً البتة ربه بقراب الأرض خطايا أتاه بقرابها مغفرة، ولا يحصل هذا لمن نقص توحيده، فإن التوحيد الخالص الذي لا يشوبه شرك لا يبقى معه ذنب؛ لأنه يتضمن من محبة الله وإجلاله وتعظيمه، وخوفه ورجائه وحده ما يوجب غسل الذنوب، ولو كانت قراب الأرض، فالنجاسة عارضة والدافع لها قوي". [فتح المجيد، ص 44].
وقد يتساءل بعضنا:
وما شأن التوحيد؟!.
ولم يكون البعد عن الشرك بهذه المنزلة؟!.
فيجيب على ذلك التساؤل العلامة ابن القيم رحمه الله فيقول: "فاعلم أن هذا النفي العام للشرك - أن لا يشرك بالله شيئاً البتة - لا يصدر من مُصر على معصية أبداً، ولا يمكن مدمن الكبيرة والمُصر على الصغيرة أن يصفو له التوحيد، حتى لا يشرك بالله شيئاً، هذا من أعظم المحال ولا يلتفت إلى جدلي لاحظَّ له من أعمال القلوب، بل قلبه كالحجر أو أقسى يقول: وما المانع؟!. وما وجه الإحالة؟!. ولو فرض ذلك واقعاً لم يلزم منه محال لذاته. فدع هذا القلب المفتون بجدله وجهله. واعلم أن الإصرار على المعصية يوجب من خوف القلب من غير الله، ورجائه لغير الله، وحبه لغير الله، وذله لغير الله وتوكله على غير الله. ما يصير به منغمساً في بحار الشرك، والحاكم في هذا ما يعلمه الإنسان من نفسه إن كان له عقل. فإن ذُلَّ المعصية لابد أن يقوم بالقلب فيورثه خوفاً من غير الله وذلك شرك، ويورثه محبة لغير الله، واستعانة بغيره من الأسباب التي توصله إلى غرضه. فيكون عمله لا بالله ولا لله، وهذا حقيقة الشرك. نعم قد يكون معه توحيد أبي جهل وعباد الأصنام. وهو توحيد الربوبية وهو الاعتراف بأنه لا خالق إلا الله. ولو أنجى هذا التوحيد وحده لأنجى عباد الأصنام. والشأن في توحيد الإلهية الذي هو الفارق بين المشركين والموحدين. والمقصود أن من لم يشرك بالله شيئاً يستحيل أن يلقى الله بقراب الأرض خطايا مصراً عليها، غير تائب منها، مع كمال توحيده، الذي هو غاية الحب والخضوع والذل والخوف والرجاء للرب تعالى". [مدارج السالكين 1/ 354- 355].
وتحقيق التوحيد يطبع سلوك المسلم بنفس ترفض المعصية وتأباها، ويشعر أن محبته لمولاه وذله وفقره إليه عز وجل تأبى عليه أن يقارف حرماته أو يجاوز حدوده، وحين يلم بشيء من ذلك فما يلبث أن يستفيق ويستيقظ.
وقد يتصور بعض الناس ويشتط في الفهم فيرى أن هذه النصوص شهادة براءة له وتزكية، وأنه قد ضمن المغفرة والعفو مادامت قدماه لم تقله طائفاً على قبر، وجبهته لم تخر بالسجود لغير الله. وهو فهم مجانب للصواب لا يحمل رصيداً من الحقيقة.
وإلا فما معنى أن يعذب الموحدون في النار بقدر أعمالهم وهم يقولون لا إله إلا الله، ولا يشركون بالله؟!. إلا أن هذا يعني أن مفهوم التوحيد وتحقيقه ونفي الشرك أبعد وأعمق من مجرد تلك النظرة القاصرة التي يراها أولئك.
ومفهوم التوحيد والشرك ليس بأحسن حالاً من غيره من المفاهيم والمصطلحات الشرعية التي علاها الغبش والرّان وتسلطت عليها الأفهام البشرية والأهواء.
قال ابن القيم رحمه الله: "ولسنا نقول إنه لا يدخل النار أحد من أهل التوحيد، بل كثير منهم يدخل بذنوبه ويعذب على مقدار جرمه ثم يخرج منها، ولا تنافي بين الأمرين لمن أحاط علماً بما قدمناه". [مدارج السالكين 1/ 358].
وحين تدرك ذلك أخي الكريم تعلن المقاطعة إلى غير رجعة مع تلك المفاهيم الجامدة التي تصور لأصحابها أنهم برآء من الشرك ومحققون للتوحيد بمجرد اجتناب مظاهر محددة أو حفظ عبارات معينة. بل بمجرد أن يولد في بلد التوحيد ويتصل إسناد نسبه دون انقطاع بأهل التوحيد؟!.
ومع إدراكك حاجتك الماسة لتحقيق التوحيد في القلب ومراجعته تدرك أن التوحيد مراتب ومراحل ودرجات فتسعى للرقي فيها والمسابقة.
قال العلامة ابن القيم رحمه الله:
"اعلم أن أشعة لا إله إلا الله تبدد من ضباب الذنوب وغيومها بقدر قوة ذلك الشعاع وضعفه فلها نور. وتفاوت أهلها في ذلك النور قوة وضعفاً لا يحصيه إلا الله تعالى. فمن الناس: من نور هذه الكلمة في قلبه كالشمس. ومنهم: من نورها في قلبه كالكوكب الدري. ومنهم من نورها في قلبه كالمشعل العظيم. وآخر: كالسراج المضيء. وآخر كالسراج الضعيف ولهذا تظهر الأنوار يوم القيامة بأيمانهم وبين أيديهم على هذا المقدار بحسب ما في قلوبهم من نور هذه الكلمة علماً وعملاً ومعرفة وحالاً". [مدارج السالكين 1/ 358].
وحيث كان أهل التوحيد يتفاوتون هذا التفاوت، ويختلفون هذا الاختلاف، فـنتاج هـذا الـتوحيد وثمرته في الدنيا والآخرة تتفاوت كذلك.
قال رحمه الله موضحاً أثر ذلك: "وكلما عظم نور هذه الكلمة واشتد: أحرق من الشبهات والشهوات بحسب قوته وشدته. حتى إنه ربما وصل إلى حال لا يصادف معها شبهة ولا شهوة ولا ذنباً إلا أحرقه. وهذا حال الصادق في توحيده الذي لم يشرك بالله شيئاً. فأي ذنب أو شهوة أو شبهة دنت من هذا النور أحرقها، فسماء إيمانه قد حرست بالنجوم من كل سارق لحسناته، فلا ينال منها السارق إلا على غِرَّة وغفلة لابد منها للبشر، فإذا استيقظ وعلم ما سرق منه استنقذه من سارقه، أو حصل أضعافه بكسبه. فهو هكذا أبداً مع لصوص الجن والإنس ليس كمن فتح لهم خزانته وولى الباب ظهره" . [مدارج السالكين 1/ 358].
إذاً فلنعن أخي الكريم بتحقيق التوحيد في قلوبنا، وملئها بمحبة الله وإجلاله وتعظيمه، والتخلي عن التعلق بما سواه، والتوجه إلى غيره عز وجل.
jprdr hgj,pd]
jprdr hgj,pd]
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|