إن الله جل جلاله هو المستحِقُّ للعبادة، فليس في الوجود من يستحق أن يُعْبد إلا الله جلَّت قدرته، وهو القاهر فوق عباده بعظمته وقدرته وسلطانه عز وجل، وله سبحانه الكمال المطلق من كل وجه، وله جل جلاله الأسماء الحسنى والصفات العلا: ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [الشورى: 11]، وهو الْمُنعِم على عباده بنعمٍ ظاهرة وباطنة لا تُعد ولا تُحصى؛ فهو خالقهم ورازقهم ومُعافيهم، فلا يستقيم في شرع، ولا عقل سويٍّ أن يُعبد غير من خلق ورزق؛ قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 21]، فمن وفَّقه الله تعالى لعبادته على وَفق شرعه، فقد سلك سبيل المؤمنين وفاز بالفلاح، ومن اتجه بعبادته، أو شيء منها إلى غير الله تعالى، فقد خاب وخسر في الدنيا والآخرة والعياذ بالله؛ وصدق الله العظيم: ﴿ وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ ﴾ [النور: 40]. توجد آية واحدة مشابهة للآية موضوع المقال بأن الله قاهر فوق عباده؛ قوله تعالى: ﴿ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ ﴾ [الأنعام: 61].
والمتأمل للآية موضوع المقال يجد أنها حَوَتْ ثلاثة من أسماء الله الحسنى؛ وهي: (القاهر - الخبير - الحكيم)، ولأهمية أسماء الله الحسنى في ترسيخ العقيدة الصافية، وتعظيم الله تعالى، وتقوية الإيمان؛ فمن المناسب التعريف بها، على النحو الآتي:
اسم الله "القاهر":
وَرَدَ اسم الله "القاهر" مرتين في القرآن الكريم، وورد "القهَّار" ست مرات، وعن معنى اسم: "القاهر"؛ قال السعدي رحمه الله: "القهَّار لكل شيء، الذي خضعت له المخلوقات، وذلَّت لعزته وقوته وكمال اقتداره"؛ [خاتمة التفسير، أصول وكليات من أصول التفسير، ص 947]، وقال أيضًا: "القهَّار وهو الذي قهر جميع الكائنات، وذلَّت له جميع المخلوقات، ودانت لقدرته ومشيئته موادَّ وعناصرَ العالم العلوي والسُّفلي، فلا يحدث حادث، ولا يسكن ساكن إلا بإذنه، وما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وجميع الخلق فقراءُ إلى الله، عاجزون لا يملكون لأنفسهم نفعًا، ولا ضرًّا، ولا خيرًا، ولا شرًّا"؛ [الحق الواضح المبين، ص: 76]، وعن الفرق بين "القاهر" و"القهار"؛ قال البيهقي رحمه الله: "القهَّار هو: القاهر على المبالغة، وهو القادر، فيرجع معناه إلى صفة القدرة التي هي صفة قائمة بذاته، وقيل: هو الذي قهر الخلق على ما أراد"؛ [الاعتقاد والهداية، ص 59].
اسم الله "العليم الخبير": ورد اسم الله "الخبير" في القرآن الكريم خمسًا وأربعين مرةً، وعن معنى الخبير؛ قال الغزالي رحمه الله: "هو بمعنى العليم، لكن العليم إذا أُضيف إلى الخفايا الباطنة سُمِّيَ خبرة، وسمي صاحبها خبيرًا"؛ [المقصد الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى، ص ٦٣]، وعرَّف السعدي رحمه الله اسم الخبير مضافًا للعليم؛ قال: "العليم الخبير هو: الذي أحاط علمه بالظواهر والبواطن، والإسرار والإعلان، وبالواجبات والمستحيلات، والممكنات، وبالعالم العلوي والسفلي، وبالماضي والحاضر والمستقبل، فلا يخفى عليه شيء من الأشياء"؛ [خاتمة التفسير، أصول وكليات من أصول التفسير وكلياته، ص 945].
اسم الله "الحكيم": ورد اسم الله "الحكيم" في القرآن الكريم أربعًا وتسعين مرة؛ قال السعدي رحمه الله: "الحكيم هو: الذي له الحكمة العليا في خلقه وأمره، الذي أحسن كل شيء خلقه، ﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ﴾ [المائدة: 50]، فلا يخلق شيئًا عبثًا، ولا يشرع شيئًا سدًى، الذي له الحكم في الأولى والآخرة، وله الأحكام الثلاثة لا يشاركه فيها مشارك، فيحكم بين عباده، في شرعه، وفي قدره وجزائه"؛ [خاتمة التفسير: أصول وكليات من أصول التفسير وكلياته، ص 945].
أقوال العلماء في تفسير الآية موضوع المقال:
قال الطبري رحمه الله: "﴿ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ ﴾ [الأنعام: 61]، يعني: الْمُذلِّل المستعبد خلقه، العالي عليهم، وإنما قال: ﴿ فَوْقَ عِبَادِهِ ﴾ [الأنعام: 61]؛ لأنه وصف نفسه تعالى بقهره إياهم، ومن صفة كل قاهر شيئًا؛ أن يكون مستعليًا عليه، فمعنى الكلام إذًا: والله الغالب عباده، المذل لهم، العالي عليهم بتذليله لهم، وخلقه إياهم، فهو فوقهم بقهره إياهم، وهم دونه".
وقال ابن كثير رحمه الله: "أي: هو الذي خضعت له الرقاب، وذلَّت له الجبابرة، وعنت له الوجوه، وقهر كل شيء، ودانت له الخلائق، وتواضعت لعظمة جلاله وكبريائه، وعظمته وعلوه وقدرته الأشياءُ، واستكانت وتضاءلت بين يديه، وتحت حكمه وقهره؛ ﴿ وَهُوَ الْحَكِيمُ ﴾ [الأنعام: 18]؛ أي: في جميع ما يفعله، ﴿ الْخَبِيرُ ﴾ [الأنعام: 18] بمواضع الأشياء ومحالها، فلا يعطي إلا لمن يستحق، ولا يمنع إلا من يستحق".
الملامح التربوية المستنبطة من الآية موضوع المقال:
أولًا: إن العلم بأسماء الله الحسنى لها أهمية بالغة في معرفة الله تعالى وتعظيمه حقَّ عظمته، وتقديره حق قدره، وأثر قوي في ترسيخ العقيدة، وتقوية الإيمان؛ قال ابن القيم رحمه الله: "وليست حاجة الأرواح قط إلى شيء أعظم منها إلى معرفة باريها وفاطرها، ولا سبيل إلى هذا إلا بمعرفة أوصافه وأسمائه، فكلما كان العبد بها أعلم، كان بالله أعرفَ، وله أطلب، وإليه أقرب، وكلما كان لها أنكر، كان بالله أجهل، وإليه أكره، ومنه أبعد"؛ [الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية، ج1، ص 6، 7].
ثانيًا: إن المتأمل والمتدبر بعقله ووجدانه نهاية الآيات المختتمة بأسماء الله الحسنى يمتلئ قلبه إيمانًا ويقينًا وفهمًا لمعاني الآيات؛ قال السعدي رحمه الله: "وهذا باب عظيم في معرفة الله ومعرفة أحكامه، وهو من أجَل المعارف، وأشرف العلوم، فتجد آية الرحمة مختومةً بصفات الرحمة، وآيات العقوبة والعذاب مختومة بأسماء العزة والقدرة، والحكمة والعلم والقهر؛ ومن الأمثلة قال تعالى: ﴿ أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴾ [الملك: 14]، فخلقُه للمخلوقات وتسويتها على ما هي عليه من إنسان وحيوان، ونبات وجماد، من أكبر الأدلة العقلية على علمه، فكيف يخلقها وهو لا يعلمها؟"؛ [انظر: القواعد الحسان لتفسير القرآن، ص: 53].
ثالثًا: تأكيدًا للمعنى في الفقرة: "ثانيًا"؛ فقد اختتمت الآية موضوع المقال باسمين من أسماء الله الحسنى، قوله تعالى: ﴿ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ﴾ [الأنعام: 18]، ولعل من حكمة ذلك ما أشار إليه ابن عثيمين رحمه الله؛ بقوله: "وقرن الله تعالى هنا بين الحكيم والخبير؛ ليعلم الناس أن حكمة الله عز وجل عن خبرة وعلم ببواطن الأمور، وعلى هذا فقد تكون خفية على كثير من الناس؛ لأنه لا يدرك الحكمة إلا من كان خبيرًا"، وقِس على ذلك؛ فكلما كان الإنسان على علم وفَهمٍ بمعاني وحكم أسماء الله الحسنى المختتمة بها الآيات، ازداد إيمانًا ويقينًا، وتطبيقًا لتوجيهاتها ومضامينها، فمن علم ليس كمن لا يعلم؛ ﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ﴾ [فاطر: 28].
رابعًا: من أعظم شرف العناية بأسماء الله الحسنى ترسيخها لتوحيد الله تعالى في النفوس، وهو المقصد الأعظم من خلق الإنسان؛ قال تعالى: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات: 56]؛ قال ابن باز رحمه الله: "وهذه العبادة التي خلق الله الثَّقَلَين من أجلها؛ هي: توحيده بأنواع العبادة من الصلاة والصوم، والزكاة والحج، والسجود والطواف، والذبح والنذر، والخوف والرجاء، والاستغاثة والاستعانة والاستعاذة، وسائر أنواع الدعاء، ويدخل في ذلك طاعته سبحانه في جميع أوامره وترك نواهيه"، وعن اسم الله "القاهر"؛ قال ابن القيم رحمه الله: "القهَّار لا يكون إلا واحدًا، ويستحيل أن يكون له شريك، بل القهر والوحدة متلازمان؛ فالملك، والقدرة، والقوة، والعزة كلها لله الواحد القهار، ومن سواه مربوب مقهور"؛ [طريق الهجرتين، ص ٢٣٣]، وقال السعدي رحمه الله: "كل مخلوق فوقه مخلوق يقهره، ثم فوق ذلك القاهر قاهرٌ أعلى منه، حتى ينتهي القهر للواحد القهار، فالقهر والتوحيد متلازمان متعينان لله وحده"؛ [تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام للمنان، الرعد: 16].
خامسًا: تضمَّنت الآية موضوع المقال أن الله قاهر فوق عباده، وصفة العبودية إكرام وتشريف للناس ورفعة لهم؛ قال ابن تيمية رحمه الله: "فكمال المخلوق في تحقيق عبوديته لله، وكلما ازداد العبد تحقيقًا للعبودية، ازداد كماله وعَلَت درجته، ومن توهَّم أن المخلوق يخرج من العبودية بوجهٍ من الوجوه، أو أن الخروج عنها أكمل؛ فهو من أجهل الخلق، بل من أضلهم؛ قال تعالى: ﴿ وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ﴾ [الأنبياء: 26، 27]"؛ [العبودية، ص 75]، وينبغي على المؤمن الموفَّق أن يعتني بعبودية الله تعالى، ويخلص لها لينال شرفها، ويعطيها جلَّ اهتمامه؛ علمًا وفهمًا وتطبيقًا، وقولًا وفعلًا؛ قال ابن القيم رحمه الله عن العناية بالعبودية والإخلاص لها: "أنها الغاية التي شمَّر إليها السالكون، وأمَّها القاصدون، ولحظ إليها العاملون، وكان شيخ الإسلام ابن تيمية رضي الله عنه يقول: من أراد السعادة الأبدية، فليلزم عتبة العبودية"؛ [مدارج السالكين، ص 430].
سادسًا: يعيش بعض الناس في خوف وقلق وتوتر؛ لكثرة مطالب الحياة ومشاغلها المعاصرة، ولو توقف عند هذه الآية: ﴿ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ﴾ [الأنعام: 18]، ثم بدأ يتأمل ويتدبر مضامينها بعلم ومعرفة، لاطمأنَّ قلبه وهدأت نفسه، فربما كان قبلها متخبطًا يمنة ويسرة، حائرًا بائسًا يعبث به الشيطان ونفسه الأمارة بالسوء، فيسلك مسالك محظورة، قد تصل به إلى الاستعانة بغير الله تعالى، فالأولَى أن يكون المفزَع الأول في قضاء حوائجه أيًّا كانت، ومهما كانت هو الله القاهر، "الذي خضعت له الرقاب، وذلت له الجبابرة، وعنت له الوجوه، وقهر كل شيء، ودانت له الخلائق"، فحينئذٍ نعتمد عليه في كل شؤون حياتنا اعتمادًا كليًّا، ونتوكل عليه بيقين صادق وتوكل تام، فهو أقرب إلينا من حبل الوريد، وهو على كل شيء قدير؛ قال ابن كثير رحمه الله: "﴿ وَهُوَ الْحَكِيمُ ﴾ [الأنعام: 18]؛ أي: في جميع ما يفعله، ﴿ الْخَبِيرُ ﴾ [الأنعام: 18] بمواضع الأشياء ومحالها، فلا يُعطي إلا لمن يستحق، ولا يمنع إلا من يستحق".
سابعًا: عندما يستحضر العبد معاني ودلالات اسم الله تعالى: "القاهر" أو "القهار"، يزداد قلبه طمأنينة وثقة بمولاه؛ إذ يعلم أن له ربًّا عظيمًا قويًّا، قاهرًا ومقتدرًا، وهذا الإدراك يزرع في قلبه حسن التوكل على الله، ويملؤه خوفًا وخشيةً منه سبحانه، مما يُثمر استقامةً في حياته، وسعادةً في عيشه، وإذا تحقق الخوف من الله وحده، هانت في عينه قوة كل جبار، وضعُف أمامه سلطان كل متسلط قهار؛ قال تعالى: ﴿ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 175]، وقال عز وجل: ﴿ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ ﴾ [المائدة: 44]"؛ [ويلالي، محمد، اسم الله القاهر - القهار تأصيلًا وفقهًا، موقع الألوكة].
ثامنًا: إن وصف الله جل جلاله بصفة "القاهر" أو "القهار" صفة تليق بجلال وجهه، وعظيم سلطانه؛ لأنه المعبود المستحق للعبادة بكل معاني الاستحقاق، فقهرُه ليس نابعًا عن ظلم وطغيان، بل عن حكمة وخبرة؛ ﴿ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ﴾ [الأنعام: 18]، أما صفة القهر في الخلق، فغالبًا ما تكون مذمومة لقيامها على الطغيان والظلم؛ كما حكى القرآن الكريم عن الطاغية فرعون: ﴿ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ ﴾ [الأعراف: 127]، وقد نهى القرآن الكريم عن ظلم الناس وبخاصة الضعفاء؛ قال تعالى: ﴿ فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ ﴾ [الضحى: 9]؛ قال القرطبي رحمه الله: "أي: لا تُسلط عليه بالظلم، ادفع إليه حقه، وخص اليتيم؛ لأنه لا ناصر له غير الله تعالى، فغلظ في أمره، بتغليظ العقوبة على ظالمه"؛ [انظر: ويلالي، محمد، اسم الله القاهر - القهار تأصيلًا وفقهًا، |
lghlp jvf,dm lsjkf'm lk r,g hggi juhgn: V,i, hgrhiv t,r ufh]i ,i, hgp;dl hgofdvC lsjkf'm l, hlgi hgofdv hgofdvC hgp;dl hgrhiv jvf,dm juhg[ juhgn: ufh]i t,r ,Yk V,i,
lghlp jvf,dm lsjkf'm lk r,g hggi juhgn: V,i, hgrhiv t,r ufh]i ,i, hgp;dl hgofdvC l, hlgi hgofdv juhg[ ,Yk