آثارهم وما قدموا في الدنيا ﴿ إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ ﴾ . قال الإمام ابن كثير
قال الإمام ابن كثير ما ملخصه: وفي قوله: ﴿ وآثارَهُمْ ﴾ قولان:
أحدهما: ونكتب أعمالهم التي باشروها بأنفسهم، وآثارهم التي أثروها- أي تركوها- من بعدهم، فنجزيهم على ذلك- أيضًا-، إن خيرًا فخيرٌ، وإن شرًّا فشرٌّ؛ كقوله صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ سَنَّ في الإسلام سنةً حسنةً، فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سنَّ في الإسلام سنةً سيئةً، كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء)).
والثاني: أن المراد بقوله: ﴿ وَآثارَهُمْ ﴾؛ أي: آثار خطاهم إلى الطاعة أو المعصية، فقد روى مسلم والإمام أحمد عن جابر بن عبدالله قال: خلت البقاع حول المسجد، فأراد بنو سلمة أن ينتقلوا قرب المسجد، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم: «إنه بلغني أنكم تريدون أن تنتقلوا إلى المسجد؟ قالوا: نعم يا رسول الله، قد أردنا ذلك، فقال: يا بني سلمة، دياركم تكتب آثاركم، دياركم تكتب آثاركم»، والمقصود أن خُطاهم إلى المساجد من آثارهم التي يكتبها الله لهم.
قال عمر بن الخطاب: "لو كان الله سبحانه تاركًا لابن آدم شيئًا لترك ما عفت عليه الرياح من أثر".
وقال مسروق: "ما خطا رجل خطوة إلا كتبت له حسنة أو سيئة".
وقال الحسن وقتادة: ﴿ وَآثارَهُمْ ﴾ يعني: خطاهم. قال قتادة: لو كان الله تعالى مغفلًا شيئًا من شأنك يا بن آدم، أغفل ما تعفي الرياح من هذه الآثار، ولكن أحصى على ابن آدم أثره وعمله كله، حتى أحصى هذا الأثر فيما هو من طاعة الله أو من معصيته، فمن استطاع منكم أن يكتب أثره في طاعة الله، فليفعل.
والله سبحانه يكتب ما عملوا من الخير والشر، وآثارهم التي كانوا سببًا فيها في حياتهم وبعد مماتهم من خير؛ كالولد الصالح، والعلم النافع، والصدقة الجارية، ومن شر؛ كالشرك والعصيان، حيث إن الأعمال لا تنقطع بالموت.
فالإنسان لو لم يجنِ في حياته ثمرة أثره؛ يعد أثرًا يبقى له وللأجيال من بعده، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من مسلم يغرس غرسًا أو يزرع زرعًا فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة)).
وحتى تصبح من صناع الأثر لا تنتظر مقابلًا، أو أجرًا، إلا من الله سبحانه.
فالعمل الطيب المؤسس بنية صالحة يجعل الأثر الذي يتركه يزداد رسوخًا وقبولًا، قال جل في علاه: ﴿ إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ﴾ [فاطر: 10]، وكل أثر لم يُبْن على الإيمان؛ فمصيره الزوال والاندثار مهما عَظُم ونما.
وكل نفع متعدٍّ يغرس خيرًا وتصلح به الحياة يُعَد أثرًا طيبًا، فأفضل العبادات أكثرها نفعًا، قال صلى الله عليه وسلم: ((إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته: عِلْمٌ علَّمه ونشره، وولد صالح تركه، ومصحف ورَّثه، أو مسجد بناه، أو بيت لابن السبيل بناه، أو نهر أجراه)).
والحذر ممن يصنع أثرًا له بريق؛ لكنه مجهول الطريق، ويكون الأثر له آثار سلبية على المجتمع، قال جل من قائل: ﴿ الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ﴾ [الكهف: 104].
اللهم اجعلنا مِمن يتركون أثرًا طيبًا؛ كالغيمة ﻻ تُثقل، أينما مرت روت، لا يُرى منها إلا حُسنها.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.