ربما تبادرت إلى أذهان الكثير منا تساؤلات حول كيف أننا كدول عربية، يُفترض أننا
نتحدث لغة واحدة، في حين لا يفهم بعضنا على بعض. بل إن معاني مفرداتنا تختلف
وتتضاد في بعض الأحيان. فكيف ومتى أصبح لكل دولة عربية لهجة تكاد تصبح لغة
منفصلة؟
يصل الاختلاف بين ألسنة الدول العربية المختلفة، من مجرد تغير معنى اللفظ
الواحد، إلى وجود مفردات كاملة للغة مصغرة، أو لنقل لهجة منفصلة، فنجد المصري
يقول ماشي والعراقي يقول صار، والمغربي يقول واخ للتعبير عن الموافقة
والمصري يقول أوي والجزائري يقول ياسر، والمغربي يقول بزاف والتونسي يقول
برشا للتعبير عن الكثرة، وغيرها الكثير من الأمثلة.
ولا يقتصر الأمر على هذا الحد بل امتد إلى تنوع الألسن أو اللهجات داخل المجتمع
الواحد. وقد وثّق الباحث السعودي سليمان الدرسوني في كتابه الإلكتروني “معجم
اللهجات المحكية في المملكة العربية السعودية”، نحو 23 لهجة داخل المملكة
وحدها، لكل منها خصائصها ومفرداتها المميزة. الأمر نفسه ينطبق على الدول
العربية المختلفة. في مصر هناك اللهجة الريفية واللهجة الإسكندرانية، واللهجة
الصعيدية، ويصل الأمر إلى اختلاف نطق الشعوب العربية المختلفة للغة الفصحى
نفسها.
تطور اللغة
يقول د. أحمد فؤاد باشا، عضو مجمع اللغة العربية: “قديماً كان هناك مستويان من
اللغة العربية، اللغة الفصحى وهي أصل اللغة، وفيها الكثير من التقعر والصعوبة
في المفردات، وتلك التي نظم بها شعراء الجاهلية أشعارهم، واستخدمت في
أوقات محددة، وكانت علامة تنافس وتميز بين القبائل العربية. واللهجات المحكية،
وهي أكثر ملائمة لمعطيات الحياة، وتعبر عن الأفراد ويتحدثونها في أنشطتهم
الحياتية المختلفة، وهي بسيطة ويفهمها الجميع وتستخدم باستمرار في جدهم
وهزلهم”.
ويضيف: “أصبح لدينا الآن مع تطور اللغة والزمن، مستوى ثالث وسطي بين اللغة
الفصحى المقعرة التي اندثر الكثير من مفرداتها، واللهجة العامية أو المحكية،
وهو مستوى اللغة الفصيحة، وتلك تتميز بسلامة مفرداتها مع البساطة والوضوح،
وهي اللغة التي نظم بها شعراء كبار مثل أحمد شوقي وفاروق شوشة،
أشعارهم”.
كيف نشأت اللهجات المختلفة؟
هناك نظريتان مختلفتان عن نشأة اللهجات العربية المختلفة، الأولى تبنتها دراسة
مالانغ السابق ذكرها.
وتعدد الدراسة أسباب تشعب اللهجات العربية المحكية في الوقت الحالي، فتقول
إن ارتباط اللغة بالمجتمع، يجعلها تتأثر بما يمر به من ظروف اجتماعية وسياسية
وجغرافية وحضارية، وتؤدي بنا إلى لهجات عدة. بالنسبة للعوامل السياسية، فرض
الحكومة للغة رسمية للتعامل في المجالات الأساسية والتعاملات الرسمية، من أهم
العوامل المؤثرة، فيلجأ الأفراد للهجة تعبّر عنهم يمارسون بها طقوس حياتهم
اليومية.
أما عن العوامل الاجتماعية، فهي بالأهمية نفسها، فالناس طبقات حرفية
وأرستقراطية وتجارية وعلمية وطبيعي أن تختلف مفردات كل طبقة، والعوامل
الجغرافية حاضرة بقوة أيضاً في تشكيل اللهجات، فنجد سكان المناطق الريفية،
يختلفون في مفردات لهجتهم عن سكان المناطق الساحلية، وعن المناطق
الصحراوية الصعبة وغيرها، كما تؤثر العوامل الحضارية، فثقافة الفرد تشكل عقله
ووعيه وشخصيته، ومن الطبيعي أن تشكل لغته الخاصة بالقدر نفسه. هنا تختلف
المفردات بالتبعية، كما قد تحدث ظروف طارئة تضطر الفرد لتغيير مفرداته، للحصول
على قدر أكبر من التميز أو الخصوصية، كالفئات الدينية التي تعتبر أقلية أو اللصوص
والمطاردين، وهنا نجد تشعباً لا يتوقف في اللهجات ولا يمكن حصره.
قال غردهل:” يعود الاختلاف في اللهجات العربية إلى أننا بالأصل لم نكن عرباً، بل
تعلمنا العربية لممارسة الدين بعد دخول الإسلام”
يعارض الباحث المصري إبراهيم أنيس تلك النظرية، ويقدم نظرية ثانية في كتابه
“من أسرار اللغة” في طبعته السادسة، الصادرة عن مكتبة الأنجلو المصرية عام
1978. فقد اعتبر أن السبب في اختلاف اللهجات هو اختلاف الألسن، واللغات الأصلية
لسكان الدول، التي أصبحت عربية حالياً. وقال إن اللغة العربية رحلت إلى المدن
الكبيرة في العراق والشام ومصر، وغيرها الكثير من اللجهات التي فتحها العرب
بعد الإسلام. وقد حلت العربية محل اللغة الأصلية في كل قطر من هذه الأقطار.
ففي العراق، حلت محل الآرامية والفارسية، وفي الشام قهرت الآرامية والسريانية،
بل اليونانية أيضاً، وفي مصر هزمت القبطية وحلت محلها.
ويتابع: “إذا سلمنا بصدق نظرية الطبقات فإننا نستطيع في سهولة ويسر أن نعلل
تلك الفروق الصوتية، التي تميزت بها كل بيئة من هذه البيئات العربية، فالمصري
عندما يسمع العراقي ينطق العربية حتى لو كان يتلو بعض آيات القرآن، يدرك لتوّه
أنه عراقي أو على الأقل يدرك أن نطقه يخالف المألوف في البيئة المصرية، وكذلك
الحال مع الشامي والمغربي”.
ويشكك أنيس في صحة النظرية الأولى قائلاً: “ليس من المقبول أو المعقول أن
نتصور أن ذلك الخلاف الصوتي راجع إلى اختلاف القبائل لأن الأسانيد التاريخية،
تبرهن على أن بعض القبائل ذات اللهجة الواحدة، أقامت في معظم تلك الجهات
بمعنى أنه لم تختص قبيلة ما بقطر معين بعد غزوه، فلم تسكن مصر بعد الفتح
العربي الإسلامي، قبيلة واحدة من قبائل شبه الجزيرة العربية”.
تأثير الإسلام على اللهجات العربية
وتعود دراسة مالانغ لتوضيح تأثير ظهور الإسلام على اللهجات العربية، فتقسمها
إلى لهجات اندثرت، وماتت، لأنها كانت مذمومة ولم يبق من آثارها الكثير في
الشعر الجاهلي، كما لم يهتم علماء اللغة الأوائل بتدوينها، ومنها: لهجة
الكشكشة، وتفرض استبدال كاف المخاطب بالشين فيقال عليش بدلاً من عليك،
وتحدثت بها قبيلة تميم، ولهجة الكسكسة، وتتضمن إضافة سين بعد كاف التأنيث،
فيقال منكِس بدلاً من منكِ، وتحدثت بها ربيعة ومضر، ولهجة الشنشنة، وتتضمن
إبدال الكاف شيئاً في المطلق، فيقال لبيش وليس لبيك وتحدثتها قبائل اليمن،
وهنالك لهجة العنعنة ويتم فيها إبدال الهمزة بالعين، فيقال عن بدلاً من أن
وتحدثت بها قبائل أسد وقيس وتميم.
كما تتحدث الدراسة عن لهجات حفظها القرآن من الاندثار: “بدأ اهتمام اللغويين
باللهجات التي وردت بالآيات القرآنية، لاعتبارين أولهما قوة الصلة بين اللهجات
العربية، والآيات القرآنية. فقرئ القرآن بعدة قراءات تيسيراً وتماشياً مع العادات
النطقية للقبائل المختلفة، وثانيهما أن الآيات القرآنية من أوثق الشواهد في
دراسة تلك اللهجات وقواعدها الصوتية والنحوية والصرفية”.
أسباب الاختلاف
يوضح فؤاد أن اللهجات أصبحت علماً متكاملاً، ويصفها بالإشكالية والأمر الشائق
والشائك في الوقت نفسه. لأن بحث تأثيرها بالسلب والإيجاب على العربية الأم أمر
شديد التعقيد، في حين أن التعمق داخلها أمر شديد الثراء.
ويضيف: “يرجع الاختلاف الشديد في اللهجات العربية لأننا بالأصل لم نكن عرباً، بل
تعلمنا العربية لممارسة الطقوس الدينية، بعد دخول الإسلام. وإذا أضفنا صعوبة
اللغة العربية، أصعب اللغات على الإطلاق في رأيي، نشأ الاختلاف الشديد بين نطق
المفردات وترجمة معانيها من هنا، ويمكن أن نضيف لهذين السببين التنافس
الشديد، بين اللهجات ورغبة كل لهجة في التميز والاختلاف عن الأخرى ما دفع بعض
الأدباء والشعراء لتمييز لهجاتهم مثل الأبنودي”.
وأكد: “في مراحل التعليم المختلفة ندرس لتلاميذنا اللغويات في مادة اللغة
العربية، لشرح وتبسيط معاني المفردات، وهذا يؤكد صعوبة اللغة وعدم القدرة
على استيعابها كلها، وهذا الأمر لا يحدث في لغات مثل الإنجليزية أو الفرنسية
مثلاً، ويقتصر الاختلاف بين الشعوب الناطقة بها على طريقة النطق فقط”.
تأثير اللهجات المحكية على العربية الفصحى
اختلف علماء اللغة المحدثين في تصورهم لأثر انتشار اللهجات العربية المختلفة
على اللغة الأم. ومن أولئك الذين يقولون بسلبية تأثير اللهجات إبراهيم أنيس،
الذي قال في كتابه: “اللهجة لا تعدو أن تكون خروجاً عن المألوف الشائع في نطق
أمة من الأمم”، ويؤيده عبد السلام المسدي، اللغوي التونسي الشهير، في كتابه
“العرب والانتحار اللغوي”، الصادر عن دار الكتاب الجديد المتحدة عام 2011. قائلاً: “إننا
أمة لا نفتأ نعمل على ضياع هويتنا اللغوية، فاللغات الأجنبية لم تعد العدو الأول
للغة العربية، بل حلت اللهجات العامية محلها في هذا العداء الشرس النافذ، إننا ما
فتئنا نفسح الأبواب للعاميات كي تغزو الحقول التي تحيا بفضلها العربية”.
ويضيف المسدي: “أكبر التباس هنا أن اللهجات اللغوية جزء من كياننا الحي، بها
نعيش وعليها نتربى، وبها نأكل ونفرح ونعشق، وجدير بنا أن نقر بذلك ونقدر
عبقرية الإنسان العربي، التي تتجلى في لغته التداولية المكتسبة، لكن هذا لا
يمنعنا من اتخاذ الموقف الحضاري، المسؤول تجاه محاولات تكريس اللهجة كحامل
للرسالة الثقافية، بديلاً للغة القومية لأن ذلك يعد انتحاراً جماعياً على عتبات قلعة
التاريخ”.
تبسيط الفصحى
في حين يرى البعض أن اللهجات ساعدت على شرح وتبسيط معاني الفصحى،
ومنهم الباحث اللغوي، محمود جمعة، الذي قال إن اللغة العربية لم تتأثر بالعامية
من ناحية قواعدها، فقواعدها ثابتة راسخة، أما من ناحية ألفاظها فقد دخلتها
ألفاظ كثيرة من العامية كما دخلَت العاميةَ ألفاظ من الفصحى. وهي عادة اللغات
كلها في استقاء بعضها ألفاظاً من بعض. ففي الفصحى ألفاظ مصرية وتركية
وإنجليزية وفرنسية وفارسية. ويضيف أن العامية تفيد كثيراً في شرح وتبسيط
الفصحى ومعانيها التي قد تكون صعبة أو غريبة على البعض.
ويضيف: “ولعل التأثير السلبي الوحيد أن سهولة العامية وانتشارها، إضافةً إلى
الاهتمام باللغات الأجنبية، كان سبباً في عزوف الناس عن إتقان الفصحى
“واتخاذهم لها وسيلة للتخرُّج من المراحل التعليمية فقط، حتى حدثت فجوة
اغترابية بين الناس واللغة العربية”.
أهمية اللهجات
في دراسة لمحمد شفيع الدين، أحد أساتذة علوم القرآن والدراسات الإسلامية في
الجامعة الإسلامي شيتاغونغ في بنغلاديش، نُشرت في ديسمبر 2007 في مجلة
“دراسات”، بعنوان “اللهجات العربية وعلاقتها باللغة العربية الفصحى”، خلص الباحث
إلى القول إن: “على الرغم من إهمال علماء اللغة الأوائل للهجات واحتقارهم لها
والاكتفاء بإشارات مثل روي عن جماعة من العرب، وقال بعض العرب، إلا أن المحدثين
اهتموا باللهجات، ولعل أبرزهم الرائد اللغوي إبراهيم أنيس. كما أفردت المجامع
العربية في مصر والعراق لها مكاناً وأصبحت هناك لجنة خاصة باللهجات في مجمع
اللغة العربية بالقاهرة، وشجعت الجامعات العربية على البحث في اللهجات
ودراستها”.
lk Hdk [hxj hggi[hj hguvfdm hglojgtm? l, hgyvfdm ]hlj
lk Hdk [hxj hggi[hj hguvfdm hglojgtm? l, hglojgtm? hggi[hj hgyvfdm