14-03-2021
|
|
SMS ~
[
+
]
|
|
|
|
|
حب المساكين (خطبة)
حب المساكين (خطبة)
د. محمد بن عبدالله بن إبراهيم السحيم
13/3/2021 ميلادي - 29/7/1442 هجري
إنَّ الحمدَ لله؛ نحمدُه، ونستعينُه، ونستغفرُه، ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسِنا وسيئاتِ أعمالِنا، منْ يهدِه اللهُ فلا مضلَّ له، ومنْ يضللْ فلا هاديَ له، وأشهدُ ألا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه.
أما بعدُ:﴿ يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ ... ﴾ [النساء: 1].
أيها المؤمنون!
المساكينُ فئةٌ من المجتمعِ كثيرًا ما يُغْفَلُ عنهم، ولا يُحْفَلُ بهم، ولا يُؤْبَهُ لهم مع أنَّ الشرعَ قد أقامَ لهم وزنًا، ورفعَ لهم شأنًا؛ جعلَ النبيَّ المجتبى صلى الله عليه وسلم يسألُ اللهَ –تعالى-أن يرزقَه حبَّهم، وأن يحيَه حياتَهم، ويميتَه مماتَهم، ويحشرَه معهم؛ فقدْ علّمَه اللهُ في رؤيا منامٍ دعاءً؛ كان كثيرًا ما يَضْرَعُ إلى ربِّه به قائلًا : "اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ، وَتَرْكَ الْمُنْكَرَاتِ، وَحُبَّ الْمَسَاكِينِ، وَإِذَا أَرَدْتَ فِي النَّاسِ فِتْنَةً فَاقْبِضْنِي إِلَيْكَ غَيْرَ مَفْتُونٍ" رواه الترمذيُّ وقال: حسنٌ صحيحٌ. وكان من دعائِه: "اللهمَّ أحْيِنِي مسكينًا، وأمِتْنِي مسكينًا، واحْشُرنِي في زُمْرَةِ المساكين". رواه الترمذيُّ وصححه الحاكمُ والألبانيُّ. وكان يوصي بهم أصحابَه وأمَّتَه مِن بَعْدِهم؛ محبةً وأداءً لِحَقِّهم؛ قال أبو ذرٍ –رضي اللهُ عنه-: "أمرني خليلي صلى الله عليه وسلم بحبِّ المساكينِ، والدُّنُوِّ منهم" رواه أحمدُ وصححه الألبانيُّ. وقدْ وَرِثَ التوصيةَ بها وامتثالَها السلفُ الصالحُ، كَتَبَ سفيانُ الثوريُّ إلى بعضِ إخوانِهِ: "عليكَ بالفقراءِ والمساكينِ والدنوِّ منهمُ؛ فإنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كانَ يسأل ربَّه حبَّ المساكينِ".
عبادَ اللهِ!
إنَّ المسْكَنةَ التي وَقَرَتْ في قلوبِ أولئكَ المساكينِ، وبها تواضعوا للحقِّ والخَلْقِ، وَسَمَوْا بها عنْ دَنَسِ التجبَّرِ والكِبْرِ والأَشَرِ والبَطَرِ هي السببُ الذي رفعَ اللهُ به منزلتَهم، وطيّبَ حياتَهم، ورُزقوا به حُسْنَ الخاتمةِ وكَرَمَ الوِفَادةِ على اللهِ يومَ الدِّينِ. ومِن شأنِ تلك المسكنةِ إن قرَّتْ في القلبِ أن يَنْعَمَ صاحبُها بسرعةِ قبولِ الحقِّ مِمَّنْ جاءَ به كائنًا مَن كان؛ لسلامةِ قلبِه مِن موانعِ القبولِ التي تَصُدُّ عن اتباعِ الحقِّ؛ ولذا كان غالبُ أتباعِ الأنبياءِ مِن المساكينِ، كما قال هِرَقْلُ لأبي سُفيانَ: " وسألتُك: أشرافُ الناسِ اتَّبعوه أم ضعفاؤهم؟ فذكرتَ أن ضعفاءهم اتَّبعوه، وهم أتْبَاعُ الرُّسلِ " رواه البخاريُّ. وقبولُ الحقِ أعظمُ ما يَصْلَحُ به القلبُ؛ ولذا غَلَبَ الصلاحُ في حال المساكينِ القابلين للحق، بل ربما بلغَ صلاحُهم درجةَ الوَلايةِ الخفيّةِ التي لو أقسمَ صاحبُها على ربِّه لَأَبَرَّهُ وإن كان مَغْمورًا في المجتمع مُحْتَقَرًا، كما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: " ألا أخبرُكم بأهلِ الجنةِ؟ كلُّ ضعيفٍ متَضَعَّفٍ، لو أقسمَ على الله لَأَبَرَّهُ " رواه البخاريُّ ومسلمٌ. وزادَ مِن جمالِ قلوبِ أولئك المساكينِ قلةُ الاكتراثِ بما فاتَ مِن مُتَعِ الدنيا حين كان الصلاحُ في التعاملِ والحديثِ والخُلُقِ وإطابةِ المَطْعَمِ عِوَضًا لما فاتَ منها، كما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: " أربعٌ إذا كُنَّ فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا؛ حفظُ أمانةٍ، وصِدْقُ حديثٍ، وحُسْنُ خَليقةٍ، وعِفَّةُ طُعْمَةٍ " رواه أحمدُ وصححه الألبانيُّ. وبذا كان المساكينُ هم أكثرَ أهلِ الجنةِ، كما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: " قمتُ على بابِ الجنةِ، فكان عامةُ مَن دَخَلَها المساكينَ " رواه البخاريُّ ومسلمٌ. وربما -على نُدْرَةٍ - دَخَلَ في زُمْرَةِ أولئك المساكينِ ذَوُو المنصبِ واليَسارِ حين لازمتْ المسكنةُ والتواضعُ قلوبَهم، ولم تَفْتِنْهم الدنيا، أو تَحْمِلْهم على الكِبْرِ والبَطَرِ كالأنبياءِ والخلفاءِ الراشدين الذين خُتموا بعمرَ بنِ عبدِالعزيزِ. كما أن فُقْدانَ متاعِ الدنيا لا يُكْسِبُ صاحبَه وَصْفَ المسكنةِ إن كان في قلبهِ كِبْرٌ وبطرٌ وجبروتٌ.
أيها المسلمون!
إنَّ محبةَ المساكينِ فيضٌ من الخيرِ دفّاقٌ؛ إذ تُوُجِبُ إخلاصَ العملِ للهِ - عزَّ وجلَّ -؛ لأنَّ الإحسانَ إليهم لمحبَّتهم لا يكونُ إلا للَّهِ -عز وجل-؛ إذ نفعهُم في الدنيا لا يُرجَى غالبًا، فأما مَن أَحسنَ إليهم؛ لِيُمْدَحَ بذلكَ فما أَحَسَنَ إليهم حُبًّا لهم، بل حبًّا لأهلِ الدُّنيا، وطلبًا لمدحهِم له بحبِّ المساكينِ. ومحبةُ المساكينِ تُوُجِبُ صلاحَ القلبِ وخشوعِهِ؛ شكى رجلٌ إلى رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَسْوةَ قلبهِ، فقال له: " إنْ أحببتَ أن يلينَ قلبُكَ؛ فأَطْعِمِ المسكينَ، وامْسحْ رأسَ اليتيمِ " رواه أحمدُ وحسّنه الألبانيُّ. والمَرْءُ إنْ أحبَّ المساكينَ جالسَهم وأَنِسَ بهم؛ وذاك يُكْسِبُه الرضا برزقِ اللَّهِ -عز وجل-، وتَعْظُمُ عنده نعمةُ اللَّهِ -عز وجل- عليهِ؛ بنظرهِ في الدنيا إلى مَن دونَه؛ فتَطِيبُ حياتُه، ويَسْعَدُ، بينما كثيرًا ما تُوُجِبُ مُجالسةُ الأغنياءِ التَّسَخُّطَ بالرزقِ، ومَدَّ العينِ إلى زِينتهم وما هم فيه، قالَ عونُ بنُ عبدِاللهِ: «صَحِبتُ الأغنياءَ، فلمْ يكن أحدٌ أطولُ غمًّا مِنِّي؛ فإنْ رأيتُ رجلًا أحسنَ ثيابًا مني، وأطيبَ ريحًا مني؛ غَمَّني ذلك، فصحبتُ الفقراءَ؛ فاسْتَرَحْتُ». كما أنّ هذه المحبةَ والمجالسةَ تَنْفِي الكِبْرَ مِن القلب، وتُلْزِمُهُ سكينةَ التواضعِ وملاحتَه. وكذلك، فإنَّ النصرَ وبَرَكَةَ الرزقِ قَرِينَا تلك المحبةِ وما تُوجِبُه، قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "ابْغُونِي الضعفاءَ؛ فإنما تُرْزَقُون وتُنْصَرُون بضعفائكم" رواه أبو داودَ وحسَّنه النوويُ، وقال عليٌ – رضي اللهُ عنه -: " يا أهلَ التَّمْرِ، أَطْعِمُوا المساكينَ؛ يُرْبُ كَسْبُكم ". وإجابةُ دعواتِ صالحيْ المساكينِ مِن أرجى ما تكونُ إجابتُه، فطوبى لِمَن أحبَّهُ المساكينُ وخَصَّوْهُ بدعائهم، لا سيما في الغَيْبِ! كان بعضُ قادةِ الفتحِ الإسلاميِّ لا يَغْزُو إلا بعدَ دعاءِ الصلحاءِ والمساكينِ واستفتاحِهم؛ رجاءَ إجابةِ دعائهم. ومحبةُ المساكينِ وخدمتُهم مِن أعظمِ الذُّخْرِ المُدَّخَرِ ليوم الدِّين، قال وَهْبُ بنُ مُنَبِّهٍ : "اتخذوا اليدَ عند المساكينِ؛ فإنَّ لهم يومَ القيامةِ دولةً"، وقال الفضيلُ بنُ عياضٍ: "مَن أرادَ عِزَّ الآخرةِ؛ فليكنْ مجلسُهُ مع المساكينِ".
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ، والصلاةُ والسلامُ على رسولِ اللهِ. أما بعدُ، فاعلموا أن أحسنَ الحديثِ كتابُ اللهِ... أيها المؤمنون!
إن محبةَ المساكينِ طاقةٌ إيمانيةٌ، ومَخْزَنُ رحمةٍ يُحَرِّكُ المرءَ لإسْداءِ النفعِ إليهِم بما يمكنُ مِن منافعِ الدينِ والدنيا؛ وذاك يقتضي البحثَ عنهم، وتَلَمَّسَ حاجتِهم؛ لِتُقضى. كان للخليفةِ الراشدِ عمرَ بنِ عبدِالعزيزِ منادٍ ينادي كلَّ يومٍ: أين الغارمون؟ أين الناكحون؟ أين المساكين؟ أين اليتامى؟ وقَدِمَ عليه بعضُ أهلِ المدينةِ، فجعلَ يُسائلُه عن أهلِ المدينةِ، فقال: ما فَعَلَ المساكينُ الذين كانوا يَجْلسون مكانَ كذا وكذا؟ قال: قد قاموا منه -يا أميرَ المؤمنينِ-، قال: فما فَعَلَ المساكينُ الذي كانوا يجلسون في مكان كذا وكذا؟ قال: قد قاموا منه، وأغناهمُ اللهُ، قال: وكان في أولئك المساكينِ مَنْ يَبيعُ كَبَبَ الخيطِ للمسافرين، فالْتَمَسَ ذلك منهم بعدُ، فقالوا: قد أغنانا اللهُ عن بيعه بما يُعْطينا عمرُ. ومما تَقْضيه تلك المحبةُ التَّقَرُّبُ إلى المساكينِ ومجالستُهم ومؤانستُهم وإكرامُهم ونُصْرَتُهم، وأضعف ذلك رَحْمَتُهم، كان عليُّ بنُ أبي طالبٍ - رضي اللهُ عنه - في أيامِ خلافتِهِ يُعَظِّمُ أهلَ الدِّينِ ويحبُّ المساكينَ، ومرَّ ابنهُ الحسنُ - رضي الله عنه- على مساكينَ يأكلونَ، فدَعَوْهُ فأجابهمُ، وأكلَ معهُم، وتلا: ﴿ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ ﴾ [النحل: 23]، ثمَّ دعاهمْ إلى منزِلِهِ فأَطْعَمَهم وأَكْرَمَهمُ، وكان ابنُ عمرَ لا يأكلُ غالبًا إلا معَ المساكينِ، وكانَ يقُولُ: لعلَّ بعضَ هؤلاءِ أن يكونَ ملِكًا يومَ القيامةِ! وجاءَ مسكينٌ أعمى إلى ابنِ مسعودٍ وقد ازدحَمَ الناسُ عندَهُ فنادَاهُ: يا أبا عبدِالرحمنِ، آويتَ أربابَ الخَزِّ واليَمَنِيِّةِ، وأَقْصَيْتَنِي لأجلِ أنِّي مسكينٌ؟! فقالَ له: ادْنُهْ، فلم يزلْ يُدْنِيهِ حتى أجلسهُ إلى جانبهِ أو بِقُرْبهِ، وكان سفيانُ الثوريُّ يُعَظِّمُ المساكينَ ويَجْفُو أهلَ الدنيا؛ فكانَ الفقراءُ في مجلسِهِ همُ الأغنياءُ، والأغنياءُ همُ الفقراءُ. وقال سليمانُ التيميُّ: " كنَّا إذَا طلبنَا عِلْيةَ أصحابِنا وجدْناهُم عندَ الفقراءِ والمساكينِ ".
pf hglsh;dk (o'fm) hglsh;dk pf
pf hglsh;dk (o'fm) o'fm
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|