23-06-2022
|
|
تفسير القرآن الحكيم .. سورة الحجر ( الآيات: 97 - 98 )
قول الله تعالى ذكره وجل ثناؤه: ﴿ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ ﴾ [الحجر: 97 - 98].
"الصَّدر" هو أعلى مقدَّم كلِّ شيء وأوَّله، وما يواجهك منه، حتَّى إنَّهم يقولون: صَدْر النَّهار والليل، وصَدْر الشتاء والصيف، وما أشبه ذلك، وهو مذكَّر، ومنه صدر الإنسان، وجَمْعه صدور، وصَدَرت الإبِلُ عن الماء: شَرِبَت حتَّى ارْتَوَت وامتلأَتْ رِيًّا، وسُمِّيَ هذا الجزء من الإنسان صدرًا؛ لأنَّه أوَّلُ ما يواجهك، وهو الذي يجمع كلَّ القوى المادِّية والمعنوية التي ينبعث عنها الإنسان في كلِّ أعماله.
و"ضيق الصَّدر": ضد شَرْحه، قال موسى - عليه السَّلام -: ﴿ قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ﴾ [طه: 25 - 26].
﴿ فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ في السَّمَاءِ ﴾ [الأنعام: 125].
وقال تعالى: ﴿ أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ ﴾ [الزمر: 22].
وقال لِخاتَمِ رسُلِه: ﴿ فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ ﴾ [هود: 12].
﴿ وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ في ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ ﴾ [النحل: 127].
﴿ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ﴾ [الشرح: 1].
وأصل الشَّرح: بَسْط الشيء وتَمْديده، حتَّى يتَّضِح وتظهر كلُّ جوانبه، فشَرْح الصَّدر: أن يَبْسطَه الله بالرَّاحة والطُّمَأنينة إليه سبحانه، وحُسْن التلقِّي لنِعَمِه والثِّقة به، وإمداده بالقُوَى الإنسانيَّة المعنويَّة، ثُمَّ الجسميَّة، حتَّى ينهض المَشروح صدْرُه إلى القيام بأعباء الحياة قويًّا واثقًا بالنَّجاح، ويدخل ميدان الجهاد فيها مطمئنًّا إلى الظَّفَر والنَّصر، فيمشي إلى غايته وقد أخذ أهبتَه لكلِّ ما سيَجِد من عقبات، لا بدَّ من ابتلائه بها بِسُنَّة العليم الحكيم، فما يدنو من عقَبةٍ إلاَّ وقد اتَّقاها وتَهيَّأ لاقتحامها، واستجمع قُواه لتذليلها، وكلَّما تذلَّلَت أمامه عقبة فاقتحمها اكتسَب قوَّة جديدة، وانبسطَتْ قُوَاه، وأمدَّها الله بِمَدد جديد، فهانت العقبة الثانية، وكانت الثالثة أهون، وهكذا، فييسِّر له كلَّ أمره ويُمهِّد كلَّ السَّبيل بين يديه: ﴿ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ ﴾ [النحل: 128].
و"ضيق الصَّدر": عكس ذلك، تَنْقبض عناصر القوَّة في الإنسان وتَنْكمش بما يُخيَّل إليه من العجز والوهن عن اقتحام العقبات، وتذليل الصُّعوبات، حين يتوهَّم أن الله لم يُعْطِه من القوى ما يقدر به على اقتحام العقبات، وحتَّى يتوهَّم أن هذه العقبات ليست من سُنَن الله اللازمة لهذه الحياة، فعندما تُصادفه عقبة - لم تكن في حُسْبانه - فلا يتَّقيها، فيُصْدَم بِها بذلك العجز والوهن المخيَّل إليه من غفْلَتِه، ونسيانه ما أعطاه الله من أسباب التَّمكين والنجاح والنَّفاذ إلى غايته، فيحزن ويغتمُّ لذلك، فيتولَّد من حزنه وغمِّه ستارٌ من الظُّلمة يَغْشى بصيرته، فيزيد في حَجْبها عن نِعَم الله وآيات رحمته وحكمته فيه وله، فيقف أمام العقبة حيران ذاهلاً.
ثم يزداد غمًّا كلَّما ازداد ذهولاً وحيرة، ويتكاثف ستار الظُّلمة على بصيرته، وهو لا يجد مفرًّا عن اقتحام العقبة، فيأخذ في اقتحامها مُسيئًا من غير الوجه السَّليم، وعلى غير سُنَّة الله الحكيمة، لِمَا غَشِيَ على بصيرته من ظلمات الهمِّ والحزن، فلا يكاد يتخطَّاها إلاَّ وقد ارتطم بها ارتطامًا حطَّم مِن قُوَاه ما زاده ضعفًا على ضعف، ووهنًا على وهن، وهكذا تكون حياتُه كلُّها اصطداماتٍ وتَخبُّطًا، ويدخل عليه الشيطان في هذه الظُّلمات، ويزيِّن له ظنَّ السَّوء بربِّه، فيوسوس له أنَّه ظلمَه بِمَنعه ما تفضَّل به على غيره من الناجحين السُّعداء بالحياة الطيبة والعيش الرغد.
و"التسبيح" من مادة "سبح"، قال في "اللِّسان": "السَّبْح، والسباحة: العوم، سبَح بالنَّهر وفيه يَسْبح سَبْحًا وسباحة، ورجل سابح وسَبُوحٌ وسابح، وفرس سابح وسبوح: يسبح في جَرْيِه، إذا كان حسنًا في مدِّ اليدين في الجَرْي"؛ اهـ.
فتسبيح الله: هو الإسراع في خفَّة، وحُسْن تصريفٍ للأعضاء والقوى، والنِّعم الظاهرة والباطنة فيما خُلِقت له، بحيث تكون ناطقةً بلسان حالِها: أنَّ الذي خلقها وصوَّرها وأعطاها هذه القوى رؤوفٌ رحيم، عليم حكيم، ما خلق شيئًا عبَثًا ولا باطلاً، وإنَّما خلَقَها بالحقِّ وللحق، وأنَّ قوله حقٌّ، وأمَرْه حق، ووَعْده حق.
فمعنى "سبحان الله" أَبْعُدُ بِما في نفسي وفي الآفاق من آيات ربِّي ونعمه، وأُسْرِع بكلِّ ذلك في طمأنينة وسهولة ويُسْر، سابِحًا - بنِعَم الله، وفي نعم الله - في بَحْر هذه الحياة، وما تصطَخِب به أمواجها من حولي، حتَّى أصِلَ إلى شاطئ السَّلامة والعافية، واثِقًا بِرَحمة ربِّي وحكمته وإحسانه وفضله، وإمداده الْمُتواصل، متبَرِّئًا من حولي وقوَّتِي - فإنِّي عاجز جاهل - إلى حولِه وقوته، فإنَّه المُنَزَّه عن أن ينساني أو يعجز عن إنجائي وإبلاغي إلى ما فطَرني وألْهَمنِي، وأمرني أن أسعى إليه من الخير والْهُدى والرشاد؛ فإنَّ بيده الخيْرَ كلَّه، وهو على كلِّ شيء قدير.
و﴿ بحمد ربِّك ﴾: الحمد: هو تعظيم المَحْمود، والثَّناءُ عليه بصفاتِ كماله ونُعُوت جلاله، مع مَحبَّتِه والرِّضا عنه والخضوع له.
و"الرَّب": هو المربِّي لخلقه وعبيده بجميع أنواع التَّربية، وهو المعطي الكلَّ أسبابَ الحياة والقوَّة والسُّمو والكمال، فرَبُّنا سبحانه ما يُنْعِم على الإنسان بأيِّ نعمة - ﴿ وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا ﴾ [النحل: 18] - إلاَّ وهو سبحانه يريد للإِنسان أن يتربَّى بها ويسمو بها على معارج الكمال الإنسانِيِّ؛ ليحيا الحياة الطيِّبة التي يُحبُّها له ربُّه الرحمن الرحيم، فإنَّ كلَّ أسمائه حُسْنَى، وكل أفعاله جميلة، وكلَّ ما يعطيه لعباده خير وحسَنٌ وجَميل، فإن تقبَّلَها الإنسان بالقبول الحسن، مقدِّرًا لنعمة ربِّه، عارفًا بأسمائه وصفاته - تيسَّر له أن يشكرها بِحُسن الانتفاع بِها والاستفادة منها، فيزداد بها دائمًا قوَّة على قوة، وحياة أطيب في حاله الثَّانية منها في حاله الأُولَى، فيكون كالسبَّاح اليقظ الماهر الذي عرف خصائص البِحار والأَنْهار، وتَمرَّن على العَوْم والسِّباحة فيها، حتَّى لانت أعضاؤه، فطاوعَتْه على ما يريد، وذلَّلت له غمرة الماء، حتَّى كانت له مطيَّة، وسخرت له الأمواج حتَّى كانت له عونًا على بلوغه برَّ السلامة في هدوءٍ وأمن واطمئنان، فهو ينتفع بكلِّ ما حوله، ويستفيد بكلِّ ما أعطاه ربُّه؛ لأنَّه ذاكِرٌ غير غافل؛ بصير ليس أعمى، يراها كلَّها خيرًا له، ويوقن أنَّها جميعها عونٌ له على بلوغ ما يسعى إليه من الغاية التي يرجوها.
وهكذا المؤمن المسبِّح بِحَمد ربِّه: قلْبُه سليمٌ يَقِظ ذاكر، حاضر مع نِعَم الله وآياته، سابح في أسماء ربِّه الحسنى، وصفاته العُلا، وما تقتضيه من الخير والرشد والحياة الكريمة الطيِّبة له في الدُّنيا والآخرة، وأعضاؤه كذلك سابحة فيما يُلزِمها القلب، ويدعوها إليه من الاستسلام والانقياد لِما تقتضيه هذه الأسماء الحسنى، ولسانه سابحٌ في تَمْجيد ربِّه بما يستحقُّه وينبغي له بِمُقتضى هذه الأسماء الحسنى، وبِما يليق بهذه النِّعم المتتالية، وما تستدعيه هذه السُّنَن والآيات الكونيَّة، وما تَهْديه وتُرْشده إليه الآيات القرآنيَّة والبيانات النبويَّة، وهذه الحال تَسْتدعي من صاحبِها أن يكون من الخاضعين المستسلِمين السَّاجدين لِرَبِّهم سامعين مُصْغين، مبادرين إلى الطاعة بكلِّ جارحة وفي كلِّ حال؛ ولذلك قال ربُّنا: ﴿ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ ﴾ [الحجر: 98]؛ يعني أنَّك إن لَزِمتَ حالة التسبيح بِحَمد ربك لَزِمَ أن تكون دائمًا من الساجدين له.
و"السُّجود" قال في "لسان العرب": "سجد إذا انْحَنَى وتطامنَ إلى الأرض، وأَسجَدَ الرَّجُلُ: طأطأ رأسَه وانحنَى، وكذلك البعير، قال الأسديُّ - أنشده أبو عبيد -:
وَقُلنَ لَهُ أَسْجِدْ لِلَيْلَى، فَأَسْجَدَا
يعني: بعيرها، أنه طأطأ رأسه لَها لتركبه، وفي الحديث: ((كان كسرى يسجد للطَّالع)) وينحنِي، والطَّالع: هو السَّهم الذي جاوز الهدف من أعلاه، والمعنى: أنه كان يسلم لراميه ويستسلم، وسجَدَ: خضَع، قال الشاعر:
تَرَى الأُكْمَ فِيهَا سُجَّدًا لِلحَوَافِرِ
وكلُّ مَن ذلَّ وخضع لِما أمر به فقد سجَد، ومنه قوله تعالى: ﴿ يَتَفيَّأُ ظِلاَلُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ ﴾ [النحل: 48]؛ أيْ: خُضَّعًا مسخَّرة لما سُخِّرت له؛ اهـ.
وبنحو ذلك قال ابنُ الأثير في "النِّهاية"، وقال في "القاموس": "سجد: خضع".
وقال النوويُّ في "تَهْذيب الأسماء": "قال الأزهري: السجود: أصله التَّطامُن والمَيْل، وقال الواحديُّ: أصله في اللُّغة: الخضوع والتذلُّل، قال: وسجود كلِّ شيء في القرآن: طاعتُه لِما سجَد له، هذا أصله في اللُّغة، ثم قيل لكلِّ من وضَعَ جبهته على الأرض: سجَد؛ لأنَّه غاية الخضوع"؛ اهـ وبنحوه قال الرَّاغب في "المفردات".
فالمعنى - على ذلك -: الْزَم أيُّها الرسول الخضوعَ والذُّلَّ والاستسلام والطاعة لربِّك وحده؛ فإنَّه هو الذي يربِّيك بكل نِعَمِه الجميلة، وفضْلِه وإحسانه، واحْذَر أن يتطامن قلْبُك أو يتَّضِعَ أو يضيق بِما يقول أولئك الكافرون بالله وأسمائه وصفاته، ونعمه وآياته، المنتصِبُون لربِّهم مِمَّا يتخذونه له من الوسائط والشُّفعاء والأنداد، وبما يَدِينون من دين الباطل من التقاليد الخرافية الوثنيَّة، والعادات الجاهلية.
jtsdv hgrvNk hgp;dl >> s,vm hgp[v ( hgNdhj: 97 - 98 ) 98 hgN]hf hgNdhj: hgp[v hgp;dl hgrvHk jtsdv
jtsdv hgrvNk hgp;dl >> s,vm hgp[v ( hgNdhj: 97 - 98 ) hgN]hf hgrvHk w,vm
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|