نحن في وعاء وسائل التواصل نعيش حالة مائية من الغليان أسفل منا لا يشعر بسخونتها البعض فتحرق ذاته، وتشعل وعيه بالجهالة، وتذرو قيمته، فهل نشعر بالماء المغلي تحتنا ويقفز بعضنا
نحن في وعاء وسائل التواصل نعيش حالة مائية من الغليان أسفل منا لا يشعر بسخونتها البعض فتحرق ذاته، وتشعل وعيه بالجهالة، وتذرو قيمته، فهل نشعر بالماء المغلي تحتنا ويقفز بعضنا باتجاه النجاة والحياة الطبيعية أم ينفذ حكم الإعدام فينا غلياً؟
لنبدأ بتغذية الوعي لدينا بمعرفة ما يمكن أن يسمى بنظرية الضفدع المغلي "هي نظرية تصف عملية غلي الضفدع وردة فعله على هذه العملية وتستعمل لتفسير ردود أفعال الناس على التغيرات المهمة التي تحدث لهم أو لمن حولهم".
ترى هذه النظرية أن الضفدع سوف يقفز فوراً عندما يوضع في ماء حار، أما إذا وضع الضفدع في الماء وهو معتدل الحرارة ثم غلي ببطء فإنه لن يقفز وسيبقى في الماء حتى بعدما يصير حاراً لأنه لن يشعر بالخطر التدريجي الحاصل وبذلك يموت عندما تبلغ درجة حرارة الماء قدراً مميتاً.
هذه النظرية تستخدم كمثل لعدم قدرة الناس على التعامل مع التغيرات السلبية التي تحدث ببطء وبشكل غير ملحوظ، لكن عندما درس بعض العلماء المعاصرين هذه النظرية وجدوا أن الضفدع المغمور في الماء سيحس بالخطر عندما يصبح الماء حار جداً وسيقفز إلا أن يشاء الله، وبهذا ظهر أن نظرية عدم خروج الضفدع من الماء الذي تم رفع درجة حرارته ببطء وموته هي نظرية لاغية لكنها ما زالت تردد للعبرة المجازية التي تحملها، وبهذا فعلى البشر أيضاً القفز من الماء عندما ترتفع درجة حرارته قبل أن تبلغ درجة الحرارة قدراً مميتاً.
هذه النظرية تذكر في التعابير المجازية، والجوهر منها هو أن الناس يجب عليهم أن يكونوا حذرين من التغيرات التدريجية السلبية التي تحصل حولهم حتى لا يعانون من خسائر مفجعة بعد فوات الأوان.. وقد استخدمت هذه القصة في وقائع عديدة ولأسباب مختلفة لتوضيح وجهات النظر.
يبدو أن تجليات التأثير التواصلي بيننا وعلينا أصبحت واقعا ساخنا يسحبنا للاسترخاء الكاذب في ماء التواصل المغلي.. وصار الخيط الرّفيع بين العالم الافتراضي والواقعي مقطوعا؛ فتشابكت الأمور إلى حد يصعب معه تمايزهما، ففي هذا العصر الذي شهد أكبرَ هجرةٍ عقلية ولجوء نفسي ونزوح عاطفي، للتوطن في وسائل التواصل الاجتماعي.
وفي ظل التمدد والتجدد التواصلي فقدَ كثيرٌ من مستخدمي تلك الوسائل الاستقرارَ الواقعي، وحدث التأثير العميق من خلال المكوث في بوتقات مساحاتها المحظورة بالغليان الإبهاري، والتخدير الوجداني الذي صنع عاهات في الوعي بتكدس التبلد الحسي، وفقدان الإحساس بقيمة ما يواجه الشخص "فطَفَت على السّطح سلوكيّات أخرجت السّاكن في أعماقِ النُّفوسِ مِنَ الصّفات والمشاعر، وعزَّزت الهشّ منها وزادت مساحة السلبيّ من التعامل والتفكير على وجه تحوّلت فيه هذه المشاعر المخبوءةُ إلى مظاهر سلوكيّة وعقد تتجّلى في الصّورة المُنعكسة على وجه صفحات هذه الوسائل المختلفة".
لا يجدي ويهم أن نضع تلك الوسائل التواصلية على منصات المحاكمة والمحاسبة بسبب أننا روادها ومستخدموها ولا نُناقش سلبيّاتها أو إيجابيّاتها، وإنّما هي محاولة للفت الانتباه للحالة والممارسة التي يعيشها الفرد المنغمس في لذات تلك الوسائل في درجة من الغليان التي أمست شاهدا حقيقيا نعرف عبره ذلك المستوى المؤدي إلى عقد نفسية واجتماعيّة بدأت تسبّب المتاعب لصناع المحتوى، وللمتفاعلين، أو المتابعين، أو المحيط الاجتماعي.
والكل سيلاحظ أن من العقد تلك التي تسلَّلت إلى نفوس نسبة هائلة من صناع المحتوى والمؤثرين الذين أصبحت حياتهم ملكا لغيرهم ويقتاتون على أهواء وأمزجة الناس بصناعة محتوى يجعلهم دوما في الحدث أو يموتون دونه.. وكذلك تلك العقد التي انسلت إلى عقول وقلوب المتفاعلين قادتهم إلى محاكاة حالة الضفدع في الماء المغلي كالشّعور بالعجز والفشلِ وإنكار الذّات والقدرات، حيث حطّم الكثير من المحتوى المعجون في تلك الوسائل الكثيرَ في أعماقهم وشخصياتهم، وأحدث ثقوبا في أرواحهم فصعب ترميم العقول المشروخة بالتأثير، وردم تصدّعاتها، والكل يلاحظ أن هذه العقد تتكرس من خلال متابعة صفحات المتفاخرين و"المهايطين" بأفعالهم وإنجازاتهم، وسطحيتهم الفكرية، ومثاليّتهم السارقة.
ويبقى القول: ونحن في وعاء وسائل التواصل نعيش حالة مائية من الغليان أسفل منا لا يشعر بسخونتها البعض فتحرق ذاته، وتشعل وعيه بالجهالة، وتذرو قيمته، فهل نشعر بالماء المغلي تحتنا ويقفز بعضنا باتجاه النجاة والحياة الطبيعية أم ينفذ حكم الإعدام فينا غلياً؟