إن الله تعالى مالك الملك، مُصرف الأمور، كل شيء بيده سبحانه، له مقاليد السماوات والأرض، يُعِزُّ من يشاء ويُذل من يشاء جل جلاله، لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون، وجعل لنَيل إكرامه أسبابًا، وهي طاعته فيما أمر، واجتناب ما نهى عنه؛ قال تعالى: ﴿ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا ﴾ [النور: 54]؛ قال السعدي رحمه الله: "﴿ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا ﴾ [النور: 54] إلى الصراط المستقيم، قولًا وعملًا؛ فلا سبيل لكم إلى الهداية إلا بطاعته، وبدون ذلك، لا يمكن، بل هو محال"، وقال القاسمي رحمه الله: "﴿ تَهْتَدُوا ﴾ إشارة إلى وعد كريم، ومستقبل فخيم"، وعلى ذلك، فمن رام هداية الله تعالى وإكرامه، فليس له سبيلٌ إلا الأخذ بأسباب طاعته، ولا شك أن لزوم صراط الله المستقيم مجلبة لخيري الدنيا والآخرة، ومن حاد عن الصراط المستقيم، وتمرد على شرع الله تعالى، فقد خاب وخسر، وإن بلغ ما بلغ من حظوظ الدنيا، ولا يلومن إلا نفسه؛ وصدق الله العظيم: ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ﴾ [فصلت: 46]. أقوال العلماء في تفسير الآية موضوع المقال:
قال الطبري رحمه الله: "يقول تعالى ذكره: ومن يهنه الله من خلقه فيشقيه، ﴿ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ ﴾ [الحج: 18] بالسعادة يسعده بها؛ لأن الأمور كلها بيد الله، يوفق من يشاء لطاعته، ويخذل من يشاء، ويُشقي من أراد، ويُسعد من أحب، وقوله: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ ﴾ [الحج: 18]، يقول تعالى ذكره: إن الله يفعل في خلقه ما يشاء من إهانةِ مَن أراد إهانته، وإكرام من أراد كرامته، لأن الخلق خلقه، والأمر أمره، ﴿ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ﴾ [الأنبياء: 23]".
الملامح التربوية المستنبطة من الآية موضوع المقال:
أولًا:كثيرًا ما يقرر القرآن الكريم سننًا كونية واجتماعية في مجالات الحياة؛ ومنها سنن العدل والجزاء، والآية موضوع المقال تقرر سنة قرآنية محكَمة؛ أن العبد إذا هان على الله تعالى، حجب عنه الإكرام، ومن لم يكرمه الله عز وجل، فليس له مكرم ألبتة، ﴿ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ ﴾ [آل عمران: 26]، وسنن الله تعالى في الخلق لا تحابي أحدًا، لا تتبدل، ولا تتغير: ﴿ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا ﴾ [فاطر: 43]؛ قال الطبري رحمه الله: "يقول تعالى ذكره: فهل ينتظر هؤلاء المشركون من قومك يا محمدُ، إلا سنة الله بهم في عاجل الدنيا، أن أُحِلَّ بهم من نقمتي على شركهم بي، وتكذيبهم رسولي، مثل الذي أحللت بمن قبلهم من أشكالهم من الأمم"، وهذا تنبيه مهم في الآية الكريمة، وفي الآية موضوع المقال أن سنن الله تعالى الجارية في الخلق لمن بغى وتجاوز الحدود الشرعية لن تتبدل ولن تتحول، فالسعيد من اتعظ بغيره قبل فوات الأوان؛ قال عبدالرزاق البدر حفظه الله: "ومن لم يعتبر بحال غيره من المفرِّطين الذين سبقوه، كان لمن بعده عِبرة"؛ [الموقع الرسمي للشيخ عبدالرزاق البدر تحت عنوان: السعيد من اتعظ بغيره].
ثانيًا:يُوصَف بعض البشر قديمًا وحديثًا بشدة الكرم والمبالغة في الجُود، وقد خلَّد التاريخ أسماء كثير ممن عُرفوا بكرمهم وسخائهم؛ منهم: حاتم الطائي، وعبدالله بن جدعان وغيرهم، وفي مقدمة جود البشر على الإطلاق كرم نبينا صلى الله عليه وسلم؛ كما جاء في الحديث: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في شهر رمضان))؛ [صحيح البخاري، حديث رقم: 6، صحيح مسلم، حديث رقم: 2308]، وكان عليه الصلاة والسلام يعطي عطاءَ من لا يخشى الفقر؛ كما ورد في الحديث: ((أن رجلًا سأل النبي صلى الله عليه وسلم غنمًا بين جبلين، فأعطاه إياه، فأتى قومه فقال: أي قوم، أسلموا؛ فوالله إن محمدًا لَيعطي عطاءً ما يخاف الفقر))؛ [صحيح مسلم، حديث رقم: 2312].
ثالثًا: هذا الكرم في حق البشر - الفقرة (ثانيًا) - خلَّده التاريخ، فكيف بإكرام أكرم الأكرمين، وأجود الأجودين؟ إكرام لا حد له، ولا منتهى لمداه في شتى المجالات المادية والمعنوية، ومن الصعب بسط ذلك، وإليك لمحة عابرة، وقطرة من بحر إكرام الله تعالى وإحسانه؛ جاء في الحديث القدسي: ((من همَّ بحسنة فلم يعملها، كُتبت له حسنةً، ومن همَّ بحسنة فعملها، كُتبت له عشرًا إلى سبعمائة ضعف، ومن هم بسيئة فلم يعملها، لم تُكتب، وإن عملها كُتبت))؛ [صحيح مسلم، حديث رقم: 130]، وجميلٌ وصف الغزالي رحمه الله لاسم الله الكريم؛ قال: "هو الذي إذا قدر عفا، وإذا وعد وفَّى، وإذا أعطى زاد على منتهى الرجاء، ولا يبالي كم أعطى ولمن أعطى، وإن رُفعت حاجة إلى غيره لا يرضى، وإذا جُفِيَ عاتب، ولا يضيع من لاذ به والتجأ، ويُغنيه عن الوسائط والشفعاء، فمن اجتمع له جميع ذلك لا بالتكلف، فهو الكريم المطلق، وذلك لله سبحانه وتعالى فقط"؛ [المقصد الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى، ص 117]، وجاء تعريف الكريم عند السعدي رحمه الله أنه: "كثير الخير يعم به الشاكر، والكافر، إلا أن شكر نعمه داعٍ للمزيد منها، وكفرها داعٍ لزوالها"؛ [تفسير أسماء الله الحسنى، ص 225]
رابعًا:إن من أعظم إكرام الله عز وجل للعبد أن يهديه للإسلام، ويشرفه بعبوديته وتوحيده، ويجعله على صراط مستقيم؛ لأن ذلك فضل وإحسان واصطفاء لا يناله كل أحد، وأن أعظم إهانة للعبد وليس بعدها إهانة أن يجعله يتخبَّط في أوحال الشرك المخزية، ولوث المعاصي والذنوب، ومآله جهنم وبئس المصير، والعياذ بالله إن لم يتداركه الله سبحانه بكرمه ولطفه وإحسانه؛ قال تعالى: ﴿ مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [الأنعام: 39]؛ قال القاسمي رحمه الله: "أي: فهو المتصرف في خلقه بما يشاء، فمن أحب هدايته، وفَّقه بفضله وإحسانه للإيمان، ومن شاء ضلالته، تركه على كفره؛ ﴿ وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ ﴾ [النور: 40]".
خامسًا:من وُفِّق لنَيل إكرام الله تعالى بالهداية للإسلام، وتشرف بعبودية الله وتوحيده، فحريٌّ به أن يحرص أشد الحرص للمحافظة على مرضاة الله تعالى باتباع أوامره، واجتناب نواهيه، فتقوى الله تعالى أساس وأصل الإكرام؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾ [الحجرات: 13]؛ قال الطبري رحمه الله: "يقول تعالى ذكره: إن أكرمكم - أيها الناس - عند ربكم، أشدكم اتقاء له بأداء فرائضه، واجتناب معاصيه، لا أعظمكم بيتًا ولا أكثركم عشيرة"، وفي هذا السياق يؤكد ابن القيم رحمه الله: "أن المعصية سبب لهوان العبد على ربه، وسقوطه من عينه، وإذا هان العبد على الله لم يكرمه أحد؛ كما قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ ﴾ [الحج: 18]، وإن عظَّمهم الناس في الظاهر لحاجتهم إليهم، أو خوفًا من شرهم، فهم في قلوبهم أحقر شيء وأهونه"؛ [الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، ص 144].
سادسًا: إذا وُفِّق العبد للزوم صراط الله المستقيم، فقد نال إكرام الله تعالى له، وفتح له الخير من أوسع أبوابه؛ وصدق الله تعالى: ﴿ وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا ﴾ [الجن: 16]؛ قال الطبري رحمه الله: "لوسَّعنا عليهم في الرزق، وبسطناهم في الدنيا"، ويعرف ابن رجب رحمه الله الاستقامة أنها: "سلوك الصراط المستقيم، وهو الدين القيم من غير تعريج عنه يمنة ولا يسرة، ويشمل ذلك: فعل الطاعات كلها، الظاهرة والباطنة، وترك المنهيات كلها كذلك، فصارت هذه الوصية جامعة لخِصال الخير كلها"؛ [جامع العلوم والحكم، الحديث الواحد والعشرون، ج1، ص 511]، ويتضح وجود ربط قويٍّ بين الاستقامة والإكثار من الطاعات، والنتيجة حصول خصال الخير كلها بفضل الله وإحسانه، ويشهد لذلك ما جاء في الحديث القدسي: ((وما يزال يتقرب عبدي إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ولئن سألني لأُعطِينَّه، ولئن دعاني لأجيبنه، ولئن استعاذني لأُعيذنه))؛ [صحيح البخاري، حديث رقم: 6502].
سابعًا:هناك من ينخدع عندما يرى في الظاهر أن المنحرفين عن منهج الله تعالى بالكفر، أو الفسق والضلال، والمجاهرة به، أنهم في سعادة وفرح وأنس لا مثيل له؛ فهذا لا يمكن ألبتة، وهو مخالف لسنن الله تعالى في خلقه، وإن حصل لهم شيء من المتاع المؤقت، لكن عاقبته وخيمة والعياذ بالله تعالى؛ قال سبحانه: ﴿ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ﴾ [آل عمران: 197]؛ قال القرطبي رحمه الله تعالى: "هذا دليل على أن الكفار غير منعم عليهم في الدنيا؛ لأن حقيقة النعمة الخلوص من شوائب الضرر العاجلة والآجلة، ونعم الكفار مشوبة بالآلام والعقوبات، فصار كمن قدم بين يدي غيره حلاوة من عسل فيها السُّم، فهو وإن استلذَّ آكله لا يُقال: أنعم عليه؛ لأن فيه هلاك روحه"، نسأل الله السلامة والعافية.
ثامنًا:حذر القرآن الكريم من الإعجاب بأهل الكفر والفسق والضلال، وما مدَّهم به الأموال والأولاد، وما ظهر عليهم من النعم، وفي ظنهم أنها من إكرام الله لهم: ﴿ أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾ [المؤمنون: 55، 56]، فجاء التحذير من الله تعالى بعدم الإعجاب بهم؛ قال تعالى: ﴿ فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ ﴾ [التوبة: 55]؛ قال البغوي رحمه الله: "لا تستحسن ما أنعمنا عليهم من الأموال والأولاد؛ لأن العبد إذا كان من الله في استدراج، كثَّر الله ماله وولده، ﴿ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ [التوبة: 55]، فإن قيل: أي تعذيب في المال والولد وهم يتنعمون بها في الحياة الدنيا؟ وقيل: يعذبهم بالتعب في جمعه، والوجل في حفظه، والكُره في إنفاقه، والحسرة على تخليفه عند من لا يحمَده، ثم يقدم على مُلك لا يعذره".
هذا ما تيسر إيراده، واللهَ أسأل بمنِّه أن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
د. عبدالرحمن بن سعيد الحازمي |
lghlp jvf,dm lsjkf'm lk r,g hggi juhgn: V,lk dik tlhgi l;vlC lsjkf'm l, H;vl l;vlC hlgi jvf,dm juhg[ juhgn: ]ik tlhgi
lghlp jvf,dm lsjkf'm lk r,g hggi juhgn: V,lk dik tlhgi l;vlC l, H;vl hlgi juhg[ ]ik ,g,